العقوبات البديلة بالمغرب: بين رهانات الحداثة القضائية وإشكاليات التطبيق العملي

بقلم: عبدالرحمان العبداوي
مع دخول قانون العقوبات البديلة حيز التنفيذ رسميا، ينفتح المغرب على مرحلة جديدة في سياسته الجنائية تهدف إلى تجاوز إشكالية التضخم السجني وتكريس فلسفة إصلاحية بديلة عن الحبس. فبعد عقود من الاعتماد شبه المطلق على العقوبات السالبة للحرية، جاء هذا الإصلاح استجابة لمطالب حقوقية، وتوصيات دولية، وضغوط اجتماعية متنامية نتيجة الاكتظاظ داخل السجون وما يخلفه من تداعيات اقتصادية واجتماعية (1: ص 12). غير أن إدماج العقوبات البديلة في المنظومة القضائية يثير تساؤلات متعددة حول شروط الاستفادة، العدالة في التطبيق، الضمانات المرافقة، ومدى قدرة هذه الآلية على تحقيق أهدافها في الإصلاح وإعادة الإدماج دون الإخلال بحقوق الضحايا أو متطلبات الردع العام (2: ص 45).
المبحث الأول: فلسفة العقوبات البديلة وأشكالها
ينبني فهم العقوبات البديلة على خلفية فكرية وقانونية تتجاوز الطابع التقليدي للعقوبة السجنية. فالمشرع المغربي لم يبتدع هذا التصور من فراغ، بل استلهم تجارب مقارنة أثبتت محدودية السجون في تحقيق الردع والإصلاح، حيث أظهرت الدراسات أن الحبس قصير المدة غالبا ما يؤدي إلى نتائج عكسية على مستوى إعادة الإدماج (3: ص 67). ومن هنا تبرز أهمية استحضار الأسس النظرية لهذه العقوبات، قبل الانتقال إلى استعراض صورها كما أقرها التشريع الجنائي المغربي.
الفرع الأول: الخلفية النظرية للعقوبات البديلة
العقوبات البديلة ليست مجرد تدبير قانوني، بل تعبير عن تحول في الفكر الجنائي من منطق العقاب إلى منطق الإصلاح. فهي تهدف إلى تقليص الاعتماد على السجون باعتبارها حلا مكلفا اجتماعيا وماليا، وتعويضها بآليات تحفظ التوازن بين إعادة الإدماج وحماية المجتمع (4: ص 29).
من أبرز أهدافها:
الحد من الاكتظاظ السجني وتخفيف الأعباء المالية للدولة.
تعزيز العدالة التصالحية من خلال إشراك الضحية والجاني في مسار التسوية.
دعم إعادة إدماج المحكوم عليهم عبر الحفاظ على روابطهم الاجتماعية والمهنية.
الفرع الثاني: صور العقوبات البديلة في التشريع المغربي
اعتمد القانون المغربي عدة بدائل عن الحبس، من أبرزها:
1- الغرامة اليومية: تتيح للمحكوم عليه استبدال كل يوم من الحبس بمبلغ مالي محدد، وفق شروط صارمة مثل وجود صلح أو تنازل وعدم تكرار الجريمة (5: ص 102).
2- العمل للمنفعة العامة: يقوم الجاني بتقديم خدمة اجتماعية لفائدة المرفق العام بدل البقاء خلف القضبان، مما يحقق فائدة مزدوجة (6: ص 210).
3- السوار الإلكتروني: وسيلة حديثة لمراقبة المحكوم عليه خارج السجن مع منعه من مغادرة نطاق جغرافي معين (7: ص 88).
المبحث الثاني: إشكاليات تطبيق العقوبات البديلة في السياق المغربي
إذا كان إدماج العقوبات البديلة في القانون الجنائي المغربي يمثل خطوة إصلاحية مهمة، فإن ترجمتها إلى ممارسة قضائية يظل رهينا بتجاوز عدة صعوبات. فالتطبيق يثير تحديات قانونية ومؤسساتية ترتبط بالبنية القضائية والرقابية، كما يطرح إشكالات اجتماعية وحقوقية تتعلق بعدالة العقوبة وضمان حقوق الضحايا (8: ص 34). لذلك يتطلب التحليل الوقوف عند هذه التحديات بمقاربتها من زاويتين متكاملتين: الأولى قانونية ومؤسساتية، والثانية اجتماعية وحقوقية.
الفرع الأول: التحديات القانونية والمؤسساتية
رغم وضوح النصوص القانونية، فإن تنزيل العقوبات البديلة يطرح عدة إشكاليات، من أهمها:
محدودية الجرائم المشمولة، حيث تم استبعاد قضايا الفساد والجرائم الخطيرة (2: ص 77).
الحاجة إلى تكوين القضاة وأجهزة النيابة العامة في مجال تفعيل هذه المقتضيات.
غياب بنية مؤسساتية كافية لمراقبة وتتبع المحكوم عليهم، خصوصا في ما يتعلق بالسوار الإلكتروني (8: ص 49).
الفرع الثاني: الأبعاد الاجتماعية والحقوقية للتطبيق
إلى جانب الإكراهات القانونية، تظهر تساؤلات مرتبطة بالبعد الاجتماعي:
هل العقوبات البديلة تعكس عدالة متساوية بين الأغنياء والفقراء، خصوصا في حالة الغرامات اليومية التي قد ينجو منها الميسور بينما يعجز عنها المعوز (9: ص 61)؟
كيف يمكن ضمان عدم تحول العمل للمنفعة العامة إلى شكل من أشكال الاستغلال؟
ما هي الضمانات التي تكفل حماية حقوق الضحايا وتعويضهم الفعلي؟
إن دخول العقوبات البديلة حيز التنفيذ يشكل منعطفا هاما في السياسة الجنائية المغربية، حيث يعلن عن إرادة حقيقية لإرساء عدالة أكثر إنسانية وفعالية. غير أن نجاح هذه التجربة يظل رهينا بتجاوز التحديات المطروحة، عبر بناء منظومة مؤسساتية متكاملة، وضمان تكوين مستمر للفاعلين القضائيين، ومواكبة مجتمعية واسعة تعزز الثقة في هذه الآلية. بذلك يمكن للعقوبات البديلة أن تتحول من مجرد نصوص قانونية إلى رافعة حقيقية لإصلاح العدالة وتعزيز السلم الاجتماعي.
المراجع
1- وزارة العدل، القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، منشور بالجريدة الرسمية، عدد 7308، 2024، ص 12.
2- عبد السلام بنعبد العالي، السياسة الجنائية بالمغرب: الواقع والرهانات، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2020، ص 45-77.
3- محمد أوجار، إصلاح العدالة الجنائية في المغرب، منشورات وزارة العدل، الرباط، 2019، ص 67.
4- Jean Pradel, Droit pénal général, 23e édition, Cujas, Paris, 2021, p. 29.
5- عبد اللطيف الحاتمي، “العقوبات البديلة في القانون المغربي: قراءة أولية”، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 159، 2023، ص 102.
6- أحمد الخمليشي، القانون الجنائي العام، الجزء الثاني، دار توبقال، الرباط، 2018، ص 210.
7- Mireille Delmas-Marty, Les grands systèmes de politique criminelle, PUF, Paris, 2020, p. 88.
8- تقرير المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، “المؤسسات السجنية بين الاكتظاظ والإصلاح”، الرباط، 2022، ص 34-49.
9- عبد الرحيم العلمي، “العدالة الجنائية بين العقوبة السجنية والبدائل الممكنة”، سلسلة أبحاث قانونية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 2021، ص 61.
(*)صاحب المقال:
– مستشار جماعي ومقرر عام سابق للميزانية
– مقتصد سابق ب CHU بالدارالبيضاء
– مفتش سابقا بالمكتب الوطني للبريد والمواصلات
– حاصل على شهادة الاهلية لمزاولة مهنة المحاماة
☎️ 0643507376