مجتمع

البحث العلمي في جامعة سيدي محمد بن عبد الله وتحديات الحفاظ على الريادة : 

 

 

متابعة :

تعتبر التصنيفات الدولية من أكثر الأساليب تداولا لقياس مدى القدرة التنافسية للجامعات بكل حيادية وموضوعية بعيدا عن التقارير الرسمية للدول والمنظمات الحكومية ، ومن أبرز تلك التصنيفات نجد التصنيف العالمي Imago SC والتصنيف البريطاني QS World University Ranking وتصنيف جامعة شنغهاي الصينية، وتصنيف التايمز الذي يصدر عن صحيفة التايمز البريطانية. وتتضمن تلك التصنيفات مجموعة من المعايير التي تعكس بكل شمول وتوازن نشاط الجامعات في مناحيها الأكاديمية والبحثية والتكوينية والحياة الجامعية وغيرها. ورغم اختلاف تلك التصنيفات الدولية في طبيعة المعايير، إلا أنها تتفق في جعل البحث العلمي ومخرجاته معيارا أساسيا في تحديد القدرة التنافسية للجامعات.

وإذا كانت المشاركة في بعض التصنيفات الدولية مقيدة بشروط علمية محددة، فإن دخول تصنيف “التايمز” (THE) على سبيل المثال يعتبر اختياريا بالنسبة لجميع الجامعات عبر العالم؛ شريطة استيفاء ثلاثة معايير أساسية تتعلق بنشر عدد كافٍ من الأبحاث العلمية في الخمس سنوات الماضية ، وجودة الدراسة لطلبة التعليم العالي ما قبل الإجازة، وتوفير تكوينات في مجموعة من التخصصات. وإذا كانت جميع الجامعات المغربية تستوفي بطبيعتها الشرطين الأخيرين، فإن الشرط الأول المتعلق بالإنتاج العلمي ما زال يشكل عقبة أمام دخول أكثر من نصف الجامعات المغربية إلى هذا التصنيف العالمي، إذ تمكنت سبع جامعات فقط من دخول هذا التصنيف العالمي، ومن بينها جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس التي حققت أفضل ترتيب بالنسبة للجامعات المغربية باحتلالها المرتبة الأولى على مدى الخمس السنوات الماضية في جودة البحث والتكوين.

وإن الحفاظ على هذا الترتيب المشرف لجامعة سيدي محمد بن عبد الله ضمن أفضل الجامعات المغربية في جودة البحث والتكوين يفرض عليها مستقبلا الاستثمار أكثر في الفرص المتاحة في العلوم الإنسانية والاجتماعية و الاقتصادية إلى جانب ترصيد المكتسبات التي تم تحقيقها في العلوم التجريبية، كما الجامعة مطالبة بربح رهان التحدي بالدخول في تصنيفات دولية جديدة أرقى من تصنيف ” التايمز” المخصص للجامعات الفتية أقل من خمسين سنة.

وإذا كانت جامعة سيدي محمد بن عبد الله واعية بثقل مسؤولية الحفاظ على ترتيبها المشرف ضمن أفضل الجامعات المغربية في السنوات القادمة، من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات العملية والتدابير الملموسة الاستباقية ضمن استراتيجية الجامعة في النهوض بالبحث العلمي وفي مقدمتها هيكلة البحث العلمي و تخصيص ميزانية ضخمة للبنيات البحثية وتشجيع الأساتذة الباحثين على النشر في المجلات العلمية المفهرسة والمصنفة، وتشجيع حركية الأساتذة الباحثين والطلبة، علاوة على العناية أكثر بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، على اعتبار ان الاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية إلى جانب العلوم التجريبية يشكلان جناحي النهوض بالبحث العلمي، فهل يشكل ضعف القدرة التنافسية للمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح في مجال البحث العلمي تحديا حقيقيا للجامعة في ربح رهان الحفاظ على ريادتها الوطنية.؟

إن رصد واقع البحث العلمي في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس يبرز أنه يجري بسرعتين مختلفتين ، فإذا كانت الجامعة وهياكلها العلمية المختلفة تبذل مجهودات حثيثة للنهوض بالبحث العلمي عبر سلسلة من الإجراءات والتدابير العملية، فيبدو أن سؤال البحث العلمي لم يعد يشكل أولوية في بعض المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح بسبب غياب التسيير والتدبير الراسمين لخريطة الطريق الآنية والمستقبلية للبحث العلمي الناتجين عن انعدام الكفاءة العلمية والإدارية عند القيادات والمسؤولين الإداريين عن القطاع، وتغليب المصالح الشخصية الضيقة على حساب المصلحة العامة ، حتى أصبح البحث العلمي في تلك المؤسسات، أشبه ما يكون بالبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة، حسب عبارة وليم جيمس الشهيرة عن الميتافيزيقا، مما انعكس سلبا على الأداء والقدرة على الإنتاج العلمي في السنوات الأخيرة. و من نتائج تلك ” الاستراتيجية” (غياب الاستراتيجية في التسيير والتدبير هو في حد ذاته استراتيجية مقصودة) غياب تنافسية حقيقية بين المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح في النهوض بالبحث العلمي، على اعتبار أن القدرة على التنافسية في مجال البحث العلمي استراتيجية هامة تساعد على اقتناص الفرص المتاحة وتسمح للمؤسسة بتحقيق نتائج إيجابية وتفوقا متواصلا مقارنة مع منافسيها في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم. وقد أدى غياب القدرة التنافسية إلى إضعاف قيم ومؤشرات الميزة التنافسية لتلك المؤسسات، وبالتالي حصولها على مراكز متأخرة في الترتيب العالمي لتلك المؤسسات الأكاديمية والبحثية. في حين أن المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود التي تحظى بقدر كبير من الميزة والقدرة التنافسية تقدم خدمة بحثية متميزة للجامعة، وتحتفظ لنفسها بسمعة علمية محترمة في السوق العالمي للتعليم العالي والبحث العلمي.

وفي هذا السياق تبرز مختلف التقييمات لمختلف البنيات البحثية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله أن هناك فرقا صارخا بين واقع البحث العلمي وتطوره بين المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح وبين المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود، مع استحضار القاعدة الأصولية ” لا مقارنة مع وجود الفارق”، ففي الوقت الذي تصل فيه تعويضات الأساتذة الباحثين في مجال النشر العلمي RIB في إحدى مؤسسات ذات الاستقطاب المحدود إلى أرقام قياسية، تكاد تدنو تعويضات الأساتذة الباحثين في بعض المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح إلى درجة الصفر، مما يحول تلك المؤسسات الجامعية إلى شبه ثانويات كبيرة تنحصر مهمتها في التكوين والتقييم، مما يطرح أكثر من علامات استفهام حول معايير اختيار المسؤولين عن تلك المؤسسات ومصالحها الإدارية، و مسؤوليتهم في تعطيل عجلة تطوير البحث العلمي وفي جعل الجامعة مشتلا خصبا لإنتاج العاطلين .

إن تحقيق القدرة التنافسية للمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح في مجال البحث العلمي والتماهي مع استراتيجية جامعة سيدي محمد بن عبد الله في تطوير البحث العلمي وتحديثه لن يتحقق إلا بالاعتماد على حسن إدارة الموارد البشرية وإدارة رأس المال الفكري الذي يمتلكه الأساتذة الباحثون وطلبة الدكتوراه من معارف وخبرات ومهارات، غير أن هذا التحدي يصطدم بمجموعة من الصعوبات وفي مقدمتها عدم قدرة بعض المسؤولين على المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح على ترجمة استراتيجية الجامعة في تطوير البحث العلمي إلى خطط وبرامج تنفيذية ملموسة، وغياب السياسة البحثية التي تحدد أولويات البحث العلمي في تلك المؤسسات، علاوة على عجز القيادة الأكاديمية المكلفة بالبحث العلمي على مواكبة إدارة المعرفة ومتطلباتها، مما يحد من قدرة تلك المؤسسات على إكساب الجامعة بقدرات إضافية في الميزة التنافسية في التصنيفات الدولية المستقبلية.

و يبقى السؤال الجوهري في هذا السياق حول آفاق البحث العلمي في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في ظل التدبير الراهن للبحث العلمي في المؤسسات الجامعية. تنبغي الإشارة منذ البداية إلى أن التصنيف الحالي المشرف للجامعة هو نتيجة طبيعية لمرحلة معينة من هيكلة البحث العلمي قبل الهيكلة الأخيرة 2018 التي ستكون لها تداعيات خطيرة على مستقبل البحث العلمي وعلى التصنيف الدولي للجامعة نتيجة مجموعة من القرارات التي تضمنتها تلك الهيكلة ومنها على الخصوص:

ـــــــــ تقليص ميزانية البحث العلمي عبر إجراءين أساسيين هما أولا : توسيع قاعدة بنيات المختبرات عبر خلق ثلاثة أحجام من المختبرات: كبيرة ومتوسطة وصغيرة غير متجانسة معرفيا ومؤسساتيا، مما أثر سلبا على مردودية المختبرات وعلى الميزانية المخصصة لها. ثانيا خلق خانة جديدة ضمن ميزانية البحث العلمي و هي مكافاة النشر في المجلات العلمية المفهرسة ( RIB ) مقتطعة من الميزانية العامة للبحث العلمي مما أدى إلى ظهور إشكالات جديدة تتعلق بتقليص ميزانية المختبرات، مما أدى إلى عجز المختبرات عن مواصلة تجهيز مقراتها بالمعدات الضرورية من جهة و بعدم التمكن من صرف الميزانية الضخمة RIB التي يبدو أنها لا تدخل ضمن أولويات المؤسسات من جهة أخرى.

ــــــ الحياد السلبي للإدارة في تدبير ميزانية المختبرات من خلال رفع يدها عن مواكبة صرف ميزانية المختبرات، ظاهرها الديمقراطية، أي أن تسيير و تدبير صرف الميزانية شأن داخلي للمختبرات، وباطنها الفوضى الخلاقة، من خلال عدم الوضوح والشفافية في تدبير صرف ميزانية المختبرات، بهدف الرغبة في التحكم في ميزانيتها العامة بدون حسيب ولا رقيب وضمها إلى الميزانية العامة للمؤسسة، و استعمالها في أهداف غير علمية ومنها على الخصوص كسب ود بعض المقربين وصنع قاعدة انتخابية قارة حفاظا على مصالحها الضيقة. ومن هنا فإن اعتماد الحياد السلبي يؤدي إلى الفوضى والغموض، والفوضى تؤدي إلى التحكم. والتحكم يؤدي إلى انتعاش البيروقراطية في التسيير والتدبير.

ـــــــ إن أي هيكلة جديدة للبحث العلمي لا تأخذ بعين الاعتبار العاملين السابقين لن يؤدي إلا إلى تأزيم الوضع وإلى نتائج عكسية أمام موجة من الإحباط التي تسود أوساط الأساتذة الباحثين والاحجام عن المشاركة الفعالة في تطوير البحث العلمي وعن الجدوى من هيكلة جديدة للمختبرات في ظل سوء الحكامة الإدارية، مما سيؤثر سلبا على تصنيف الجامعة في السنوات القادمة. فهل ستتحرك الجامعة وهياكلها لوضع حد لكل التجاوزات المتراكمة والموروثة عن التسيير السابق، أم أن حجم التجاوزات والاختلالات أكبر من عملية الإصلاح ؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى