مجتمع

قمة ترامب – بوتين بألاسكا : إختبار للديبلوماسية في عالم مُتَقلب

 

بقلم :  البراق شادي عبد السلام

 

تُمثل قمة ألاسكا المرتقبة بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين حدثًا دبلوماسيًا استثنائيًا، لا يُمكن فصله عن سياقاته الجيوسياسية والتاريخية. ففي سياق نزاع مسلح طال أمده في أوكرانيا، يكتسب هذا اللقاء أهمية قصوى كآلية استباقية تسعى لتجنب مزيد من التصعيد، وتؤكد على مبدأ التفاوض السلمي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. فالانتقال من لغة التهديد والعقوبات إلى طاولة الحوار و التفاوض يعكس إدراكًا مشتركًا بأن حل هذا الصراع الدموي لا يمكن أن يكون بالمواجهة العسكرية فقط، بل يتطلب إرادة سياسية قوية و رؤية ديبلوماسية واضحة للوصول إلى تسوية مقبولة قد تكون تاريخية .

ومع ذلك، فإن اختيار ألاسكا مكانًا للقاء ليس عشوائيًا، بل يحمل دلالات عميقة في دبلوماسية القمة. حيث تكتسب اللقاءات المباشرة بين رؤساء الدول أهمية خاصة، لكونها تتيح تجاوز البروتوكولات التقليدية والروتين البيروقراطي، وتؤسس لـ”كيمياء” شخصية قد تُسهل من التوصل إلى تفاهمات راسخة ، فالرمزية الجيوسياسية للمكان، هي رسالة ضمنية حول العلاقة التاريخية بين البلدين، وتُعيد للأذهان سيادة الدولة على أرضها، حيث لا يُمكن فهم أهمية لقاء ألاسكا بمعزل عن سياق القمم التاريخية التي جمعت بين الزعماء السوفيات و الروس والقادة الأمريكيين. فإذا كانت قمة هلسنكي لعام 1975 قد شكّلت نقطة تحول في “الواقعية الدفاعية” التي سعت لتوازن القوى في الحرب الباردة، بتبنيها وثيقة “هلسنكي” التي أكدت على مبادئ عدم استخدام القوة واحترام سيادة الدول، فإن اختيار فنلندا كدولة مُحايدة كانت في مرحلة تاريخية تابعة للإمبراطورية القيصرية الروسية في عهد أسرة رومانوف قد لعب دورًا أساسيًا في إضفاء الشرعية التاريخية على الحوار بين خصمين الخلاف بينهما إيديولوجي بالأساس. وعلى النقيض، يختلف لقاء ألاسكا المرتقب في “رمزيته الجيوسياسية” العميقة. فألاسكا، التي كانت جزءًا من الإمبراطورية الروسية قبل أن تُباع للولايات المتحدة في عام 1867 في صفقة كان الهدف منها تخفيف مصاريف حمايتها من أعباء ميزانية موسكو ، تُعد شاهدًا على تاريخ طويل من العلاقات المتأرجحة و المتناقضة بين البلدين. فهذا الاختيار ليس محاولة لإضفاء طابع الحياد، بل هو رسالة دبلوماسية معقدة تُشير إلى أن “ساحة اللقاء” تقع على أرضٍ أمريكية كانت يومًا ما روسية، مما قد يُمهد لمساومات تاريخية، تُعيد رسم خارطة التفاهمات، وتتجاوز الخلافات الراهنة. فهذا الاختلاف في اختيار المكان يُبرز تحولًا في طبيعة الدبلوماسية بين القوتين، من البحث عن أرض مُحايدة إلى استخدام الرمزية التاريخية كأداة للتفاوض، في سياق يطرح تساؤلات حول طبيعة “القطبية المتعددة” في العالم المعاصر. شارك في قمة هلسنكي لعام 1975 ممثلون عن 35 دولة من المعسكرين الشرقي و الغربي ، وكان من أبرز الشخصيات التي وقعت على “وثيقة هلسنكي” النهائية كل من ليونيد بريجنيف (الاتحاد السوفيتي)، بروز تيتو ( يوغوسلافيا ) وجيرالد فورد (الولايات المتحدة)، وهلموت شميت (ألمانيا الغربية)، وإريك هونيكر (ألمانيا الشرقية)، وغيرهم. وقد شكلت هذه القمة تتويجاً لسياسة الانفراج التي قادها وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، الذي كان له دور أساسي في صياغة المحاور الرئيسية للوثيقة، بما فيها قضايا حقوق الإنسان. الوثيقة تضمنت مجموعة من المبادئ الأساسية لتعزيز الأمن والتعاون في أوروبا، مثل احترام سيادة الدول وحرمة الحدود، بالإضافة إلى قضايا التعاون الاقتصادي والعلمي والتقني، وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وقد شكلت هذه الوثيقة نقطة تحول في تاريخ الحرب الباردة، حيث أرست أسسًا للحوار والتفاهم بين الكتلتين الشرقية والغربية، وساهمت بشكل كبير في تقويض الانقسامات التي كانت قائمة بينهما من خلال سياسة “الاحتواء” التي اتبعها الغرب ، أما في قمة ألاسكا فالوضع مختلف حيث أن أغلب المؤشرات تؤكد إلى أن المصالح المشتركة تتجاوز الخلافات الظاهرة، مما يمهد الطريق لـ”صفقة كبرى” محتملة ؛ في نفس الوقت تُبرز المقترحات الروسية المطروحة في سياق القمة تحديات قانونية وسياسية كبرى، أبرزها مسألة التنازل الإقليمي ، حيث يُطالب الكرملين باعتراف أوكرانيا بسيطرة روسيا على مناطق دونباس والقرم، وهو ما يتصادم بشكل مباشر مع مبدأ السيادة الإقليمية للدول، الذي يُعتبر حجر الزاوية في القانون الدولي المعاصر.

وبالتالي، يُشكل هذا التباين عقبة أمام أي تسوية، ويضع المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي حول مدى التزامه بمبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وهو ما قد يُعرض روسيا لاتهامات بارتكاب جرائم حرب.

وفي هذا السياق، تُشكل مقاربة الرئيس ترامب، القائمة على “دبلوماسية الصفقات” (transactional diplomacy)، تحديًا للثوابت التقليدية في القانون الدولي. فبينما يركز القانون على مبادئ مثل عدم التدخل وسيادة الدول، تعطي هذه المقاربة الأولوية للمصالح المباشرة والنتائج العملية، حتى لو تطلبت تنازلات قد تُعتبر غير مقبولة من الناحية القانونية. وإزاء ذلك، يثير هذا النهج تساؤلات حول طبيعة النظام الدولي: هل هو نظام قائم على القواعد الأخلاقية و المبادئ السياسية ، أم أنه يخضع لمنطق القوة والمساومة؟

 

من جهة أخرى، يُظهر التباين في المواقف بين الأطراف الفاعلة في النزاع الأوكراني أن الدبلوماسية ليست عملية ثنائية فحسب. فرفض بوتين لفكرة لقاء ثلاثي مع زيلينسكي، وقلق الأوروبيين من “صفقة كبرى” بين القوتين العظميين، يُؤكد على دور الأطراف الثالثة في أي عملية تفاوض. لذلك، تُمارس هذه الأطراف، سواء كانت دولاً أو منظمات، ضغوطًا دبلوماسية لتشكيل الأجندة، وتُحاول ضمان أن تكون مخرجات القمة متوافقة مع مصالحها، وتتجنب إضعاف موقف نظام كييف أو تقليص الدعم الغربي لها ، حيث عقد اجتماع حاسم سبق القمة الكبرى، في “تشيفينينغ هاوس” البريطانية، في لقاء ضم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر. حيث شهد الاجتماع حضورًا رفيعًا من المؤسسات الأوروبية ممثلة في رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى جانب الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب، ونائب الرئيس الأمريكي جي. دي. فانس، وممثلين عن أوكرانيا. ليصدر عن الاجتماع بيان مشترك يعكس موقفًا جيوسياسيًا موحدًا، حيث أكد على ثلاث مبادئ ثابتة أولها رفض أي حل دبلوماسي مفروض، والتأكيد على أن المصالح الأمنية لأوكرانيا وأوروبا غير قابلة للتفاوض، ثانيها أن الخطوط الأمامية الحالية ليست حدودًا رسمية.ثالثها التنصيص على أن وقف إطلاق النار يجب أن يكون شرطًا مسبقًا لأي مفاوضات جوهرية، وليس نتاجًا لها، مما يؤكد على ضرورة إرساء قواعد قوية قبل أي حوار.

 

هذا الأمر يتجلى بوضوح في”دبلوماسية الظل” (shadow diplomacy)، والتي تجسدت في الاجتماعات التنسيقية الأوروبية-الأوكرانية-الأمريكية قبل قمة ألاسكا. فهذه التحركات تُبرز القلق من أن تُبرم صفقة بين واشنطن وموسكو بمعزل عن رأي الحلفاء. وبالتالي، تُظهر أهمية الدبلوماسية الوقائية، التي تُمارسها الدول لتحييد المخاطر المحتملة وتنسيق المواقف قبل انطلاق المفاوضات الرسمية، خصوصًا في مواجهة التحشيد الجزئي الروسي ، حيث يمكن تحليل هذا المشهد بشكل أعمق من خلال مفهوم “تمرير المسؤولية” (buck-passing) في العلاقات الدولية. فبدلاً من أن تتحمل الولايات المتحدة وحدها عبء المواجهة المباشرة مع روسيا، قد تسعى إدارة ترامب إلى نقل هذا العبء إلى أوروبا وأوكرانيا. هذا النهج، الذي ينتمي إلى الواقعية الهجومية، يهدف إلى إضعاف الخصم عبر وكيل، مع الحفاظ على مسافة استراتيجية تُجنب القوة العظمى الاستنزاف العسكري والاقتصادي.

 

إلى جانب ذلك، تلعب “دبلوماسية تويتر” ودبلوماسية “تروث سوشيال” دورًا مهمًا في تشكيل الرأي العام الدولي.حيث تُستخدم هذه المنصات لنشر التسريبات، وتوجيه الرسائل السياسية، وإدارة التوقعات حول نتائج القمة. هذه الدبلوماسية العامة، بدورها، هي أداة لتأطير السرديات (narratives) وجذب التأييد أو التحذير من المخاطر المحتملة، مما يؤثر على الشرعية الدولية لأي اتفاق يتم التوصل إليه.

 

وفي خضم هذه التعقيدات، يُشكل تمسك الرئيس زيلينسكي بمبدأ عدم التنازل عن الأراضي تحديًا لـ”دبلوماسية الصفقات” التي يتبناها ترامب. فبينما يرى زيلينسكي أن السيادة الوطنية خط أحمر، يُنظر إليها من منظور المصالح الكبرى على أنها قد تكون قابلة للتفاوض من أجل تحقيق السلام. هذا التباين يعكس الصراع بين المبادئ القانونية للسيادة وبين الواقعية السياسية التي تُعطي الأولوية لإنهاء الصراع، حتى لو كان ذلك على حساب بعض المبادئ.

 

بالتزامن مع هذه الجهود الدبلوماسية، تواصل الجبهات العسكرية اشتعالها. ففي شمال شرق أوكرانيا، أحرزت القوات الروسية تقدمًا في محور خاركوف، ما أجبر القوات الأوكرانية على التراجع إلى الضفة اليمنى لنهر أوسكول. ووفقًا لمصادر ميدانية، بدأت وحدات من اللواء الثالث الأوكراني، الذي يضم عناصر من كتيبة “آزوف”،

بالانسحاب من مواقعها قرب قريتي بوروفايا وبودليمان، في ظل ضغط متزايد من القوات الروسية المتقدمة. كما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قوات مجموعة “الغرب” تمكنت من تدمير تشكيلات عسكرية تابعة لأربعة ألوية أوكرانية في مناطق متفرقة من خاركوف ودونيتسك.

 

أما على الجبهة الجنوبية، فقد شهدت القوات الأوكرانية، وتحديداً اللواء 36 مشاة البحرية، تقدماً محدوداً في محور زابوريجيا، حيث نجحت في استعادة عدة قرى صغيرة. لكن، يواجه هذا التقدم مقاومة شرسة من الجيش الروسي الذي يُحكم سيطرته على مدينة ميلتوبول، ويستخدم الطائرات المسيرة الانتحارية من نوع لانسيت-3 لعرقلة تقدم المدرعات الأوكرانية. حيث تُشير التقديرات إلى أن القوات الروسية قد حفرت مئات الكيلومترات من الخنادق لإنشاء خطوط دفاعية متعددة، مما يُعقد بشكل كبير من مهمة أي هجوم مضاد أوكراني شامل.

 

وفي سياق هذه التطورات، ظهرت في الإعلام تسريبات غير مؤكدة عن “خطة ويتكوف” التي تُقال إنها تُقدم مسارًا مختلفًا للتسوية. تتضمن الخطة وقف إطلاق النار ورفع العقوبات عن روسيا، مع تأجيل البت القانوني في ملف الأراضي التي ضمتها موسكو لمدة 49 عامًا، دون المساس بمسألة توسع الناتو أو وقف الدعم العسكري لأوكرانيا. ورغم أن هذا الطرح، إذا صح، يتقاطع مع بعض المطالب الروسية، فإن تمريره يصطدم بثلاثة تحديات رئيسية:

أولها، هشاشة الضمانات طويلة الأمد في ظل غياب استمرارية ترامب في منصبه؛ و ثانيها، قابلية أوكرانيا لمراجعة التزاماتها في أي وقت؛ و ثالثها، الموقف الأوروبي الرافض للاعتراف بأي تغييرات حدودية بالقوة، ما يعني هزيمة سياسية للقارة أمام روسيا.

 

على ضوء ما سبق سواء نجحت القمة أو فشلت، فإنها ستُلقي بظلالها على مستقبل النظام الدولي. فإذا نجحت، قد تُرسخ سابقة جديدة في حل النزاعات الكبرى عبر الحوار المباشر بين القوى العظمى، وتُعيد تشكيل ميزان القوى العالمي. أما إذا فشلت، فستُؤدي إلى مزيد من الاستقطاب الجيوسياسي، وربما تُعيد العالم إلى حقبة من التنافس والصراع البارد، حيث تتلاشى فرص التعاون وتتزايد مخاطر المواجهة المباشرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى