من الدليل إلى القرار: كيف تصنع البيانات المفتوحة ثقةً عامة

البيانات المفتوحة كأحد أهم أعمدة الحوكمة الحديثة. فهي لا تقتصر على إتاحة الأرقام والإحصاءات، بل تمنح المجتمع مفاتيح لفهم الواقع واتخاذ القرار على أساس المعرفة لا الحدس. ومن هنا، يصبح نشر البيانات الرسمية ممارسةً ديمقراطية تُعيد الثقة بين المواطن والمؤسسة، وتفتح آفاق الابتكار والإصلاح.
تخيّل أن المعلومة الرسمية تجري في مؤسساتنا كما يجري الماء في الأنابيب: صافية، متاحة، وجاهزة لمن يروي فكرة عطشى أو يشغّل خدمة تحتاج طاقة. عند هذه النقطة بالذات تتضح روح البيانات المفتوحة: معرفة عمومية مبذولة يطالعها الجميع ويعيدون استخدامها، من غير أن تمسّ خصوصية أو تنتهك قانونًا؛ ليست ترفًا رقميًا يلمّع الواجهات، بل بنية تحتية تُبنى فوقها السياسات والخدمات والفرص.
كلما انفتح المصدر اتسعت دائرة الجدوى؛ فبدل التخمين تنعقد الحجة، وبدل الانطباع يحضر الدليل. بهذا المعنى لا تكون الشفافية مجرد شعار أخلاقي، وإنما أداة عمل يومية: تُصحح مسارات القرار، وتقلل كلفة الخطأ، وتمنح الفاعلين — من إدارة واقتصاد ومجتمع — لوحة مشتركة ينظرون إليها بالمعايير نفسها. ومن هنا، كل جهدٍ يبسّط الوصول ويشرح السياق ويرخّص إعادة الاستعمال، يتحوّل تلقائيًا إلى رافعة للثقة العامة.
وعندما ننقل هذه الفلسفة إلى الواقع الوطني، يظهر نموذجٌ يسهّل القياس والتعلّم: نافذة وزارة العدل للبيانات المفتوحة. فبمجرد أن توضع المعطيات الإحصائية المتعلقة بنشاط المحاكم — باختلاف أنواعها ومستوياتها — في متناول العموم بصيغ تنزيل شائعة ووصف مفهوم وترخيص واضح، يصبح الزمن القضائي قابلًا للمقارنة، ويغدو المجهود الإداري مرئيًا وقابلًا للقياس، وتبدو العدالة نفسها أصدق في مرآة لا تجامل. ومع هذا الانفتاح يتقدّم إلى الواجهة دور هيئة كتابة الضبط؛ فهي محور دورة الملف وضمير السجل، وكلما ازدادت دقة البيانات التي تمر عبرها، تحسّنت الجودة من المنبع: إدخالٌ محكم، تتبعٌ أيسر، وخدمات تُنجز “الحق” بلا ضجيج.
وبينما تتحرّك الإدارات وفق معطيات موثوقة، تنكشف أمامها خريطة العمل كما هي لا كما يُظن: توزيع الموارد البشرية واللوجستية يُبنى على الضغط الحقيقي لا على أثر الذاكرة، وبؤر التأخير تُرصد ثم تُعالج بإجراءات قابلة للمتابعة، والتنسيق بين المصالح يصبح أبسط لأن مرجع النقاش واحد. ومع انتظام النشر تتكون عادة مؤسسية تُراكم الثقة لا الملفات فحسب؛ فالمواطن يرى، والباحث يراجع، والمسؤول يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسبه غيره.
وبالتوازي، يُرفع الغطاء عن سوق ابتكار حقيقية في القطاع الخاص. فحين تتوافر بيانات العدالة بصورة مفتوحة، تنشأ منصات تيسر على المحامين والمتقاضين مساطرهم، وتظهر شركات ناشئة تحوّل الجداول الجامدة إلى لوحات ناطقة، وتجد صحافة البيانات مادة صلبة تكتب بها قصصًا تُقنع لا تُدهش فقط. لا أحد يحتاج “بطاقة VIP” للدخول إلى المنجم؛ الباب مفتوح، والابتكار يتكفّل بالباقي.
وعلى الضفة الأخرى، يصبح الوصول حقًا لا حظًا للأفراد. الطالب والباحث والصحفي والمواطن يطالعون المصدر نفسه من دون وسطاء؛ فتتخذ الأسرة قراراتها على نورٍ لا على ضباب، ويكتب الباحث فصله بثقة لأن رقمًا واحدًا أنقذ أطروحة من التعميم، ويشارك المواطن في النقاش العام مسلحًا بالمعرفة لا بالانفعال. صحيح أن البيانات لا تغيّر الواقع وحدها، لكنها تمنحنا عدسة نظيفة نرى بها ما ينبغي تغييره، ثم نمضي إليه معًا.
وحتى تكتمل الحلقة، لا تكفي الإتاحة التقنية. المطلوب وصفٌ بشري لكل مجموعة: ما موضوعها؟ أي سنوات تغطي؟ كيف تُستخدم؟ ثم مسار تنزيل يسير، وجدول تحديث معلن، وصفحة ترصد “قصص الاستخدام” الملهمة: باحث صغّر فرضياته حين صححت الأرقام ظنونه، جمعية حسّنت خدمة محلية بعدما رأت ما كان خارج الرؤية، ومقاولة صغيرة اختصرت طريقًا طويلًا بفضل معلومة دقيقة. وقبل ذلك وبعده، قناة تواصل تستقبل طلبات مجموعات جديدة وملاحظات التصحيح وتجيب ببساطة عملية؛ فالمستفيد الجيد شريك تحسين لا مجرد متلقٍ.
ومتى ترسّخت هذه العادات، يصبح السؤال أقل تعلقًا بـ“كم نملك من ملفات؟” وأكثر انشغالًا بـ“كيف نجعلها مفهومة ومستخدمة يوميًا؟” في مكاتب القضاة، وعلى طاولات كتّاب الضبط، وفي مختبرات الجامعات، وعلى شاشات الصحفيين ورواد الأعمال. عندها تتحول الشفافية من لافتة إلى سلوك، ويغدو الابتكار منهجًا لا مصادفة. ولعل أجمل ما في البيانات المفتوحة أنها لا تطلب منا أكثر من أمرين يسيرين: أن ننظر جيدًا… ثم نعمل أفضل.
هذه المقالة تُكرّس دعوةً لثقافة البيانات المفتوحة كحقٍّ عام، ومحرّكٍ للثقة والإبداع.
موقع البيانات المفتوحة الرسمي لوزارة العدل data.gov.ma نمودجا
بقلم : الحسان الغوالي تقني إعلاميات التسيير




