مجتمع

المجتمع المدني بالمغرب بين الاستقلالية والتبعية

 

*اعداد: الدكتور الكيرع المهدي

 

 

إن حالة التشنج التي تعيشها المنطقة العربية في الوقت الحالي، لا تخدم المصلحة الوطنية، ولا تبني لمستقبل آمن ، في ضوء الاضطرابات الجارية في الكثير من الدول، وعلى أكثر من صعيد، لذلك فإن ترتيب البيت الداخلي لكل الوطن، وخلق أجواء المشاركة السياسية بين الشعوب والحكومات، هي مقدمات ضرورية وملحة لفتح صفحة جديدة في مستقبل آمن.

فقد رأينا، أن الحلول الامنية لا تجدي نفعا، وأن العنف لا يولد الا العنف، وأن سياسة تكميم الافواه، وزرع الرعب والخوف لا تخلق مجتمعات قوية آمنة مطمئنة، بل تنشئ أجيالاً من الحاقدين والناقمين ينتقمون من السجان والجلاد.

لذا أرى أن الحديث عن إشكالية ما يسمى بالمجتمع المدني، تطرح في الحقيقة وفي المقام الأول قضية الديمقراطية باعتبارها إطارا يسعف الفرد أو الجماعة في التنظيم والاجتماع والمناقشة العمومية لقضاياها الحيوية والتأثير بالتالي على القرارات السياسية المتعلقة بحاضرها ومستقبلها، أي ارتقاء المجال السياسي الى مستوى إنتاج شروط تسمح للفعاليات المدنية من التعبير عن إحساسها الفعلي بالمواطنة من خلال أخذ الكلمة والمشاركة، بدل استنزاف قدرتها في مواجهة مختلف أشكال الحصار والقمع والالغاء.

وإذا كانت الاحزاب السياسية، بحكم طبيعتها التنظيمية وولاءتها وأساليب النضال أو التفاوض التي تنهجها، بقيت مرتهنة بموازين القوى مع النظام السياسي، ولم تنجح في إدماج الافراد في معترك السياسة الا جزئيا، إن لم نقل فشلت في استقطاب فئات واسعة تتطلع إلى العمل والمشاركة.

إذا كان الأمر كذلك، فان السؤال الذي يطرح بإلحاح على كل الفاعلين في المجال الجمعوي هو: هل ستتمكن الجمعيات والتنظيمات المدنية باختلاف مجالات تحركها القطاعية والعامة، من انجاز مالم تنجح الاحزاب السياسية في تحقيقه؟ أي العمل في اتجاه توفير شروط خلق ثقافة ديمقراطية تعترف بالمواطنة وتحفز على المشاركة.؟

وقبل الإجابة عن هذه الاشكاليات، لا بد من ابداء ملاحظة هامة وهو أن ما يميز ناشطي العمل الجمعوي في المغرب هو الإلمام والوعي السياسي بقيمة المواطنة والتمدن والتقدم والمشاركة والشفافية … الخ.

ولأنهم ينتمون في الغالب الأعم إلى الطبقة الوسطى، ويعتبرون من خلال كتاباتهم ومواقفهم، أن المجتمع السياسي، نظاما وأحزابا، يعاند المبادرات المستقلة ويقاوم حالات النضج المدنية بشتى الوسائل والطرق، ولأن هذه الطبقة الوسطى، لا سيما النخبة المثقفة فيها، تمتلك مستويات التفكير الاربع المعروفة، معرفة الواقع، تنظيم هذا الواقع، التخطيط للمستقبل ومعرفة نتائج التخطيط الصحيحة. فإنها اقتنعت بضرورة التنظيم المدني والتحرك الاجتماعي والفكري والاعلامي مطالبة بالإسراع بعملية التحديث واقرار ديمقراطية حقيقية.

إن الاهمية القصوى التي اكتسبتها المدنية بوصفها مسرحا أساسيا للتحولات الاجتماعية، وفضاء مركزيا للأحداث الكبرى، التي تحدد مصير المغرب في الحال والمأل، هذه الاهمية تصادف الصعود المتنامي للميولات الاستقلالية لبعض الفئات الاجتماعية بالنسبة للحضور الطاغي لأجهزة الدولة.

هل سيسعفنا ذلك على القول بأن الأمر يتعلق ببروز ما ينعت بالمجتمع المدني؟ هل توجد في المغرب، ممارسات اجتماعية تنفلت من مراقبة وتوجيه الدولة، وتؤكد ذاتها باعتبارها قوة تجسد أنماطا الوعي والمصالح مستقله عن استراتيجية السلطة السياسية؟

فماذا نعنى بمفهوم المجتمع المدني اذن؟

تطور النقاش في السنوات الاخيرة حول إمكانية تأسيس مجتمع مدني في التجربة السياسية المغربية، هل هو مجتمع موجود او ممكن؟

حاولت خطابات متباينة أن تؤسس تصورات حول المجتمع المدني خاصة مع وجود تحولات اجتماعية ومتغيرات سياسية بالنسبة لرجل السياسة والرجل الأكاديمي، فالأول يوظف مفهوم المجتمع المدني انطلاقا من مصلحة سياسية وطبقا لشعارات أو وفق تصورات خاصة، أما الأكاديمي فيبني تعامله مع المفهوم على حذر منهجي، ويفرض ذلك طرح تساؤلات في الموضوع.

المجتمع المدني بطبيعته مفهوم مركب من “مجتمع “، وهو “الرابطة الجماعية العضوية بين مجموعة من الافراد ” ثم “مدني” الذي هو لفظة تشير إلى حالات النظام، الثقافة والحضارة.

وعادة ما يعرف “المجتمع المدني” باعتباره: “مجموعة من المؤسسات المدنية والاجتماعية وجملة القنوات والمشارب التي يعبر بها المجتمع الحديث عن مصالحه وغاياته ويتمكن من الدفاع عن نفسه في مواجهة طغيان المجتمع السياسي المتمثل بالدولة … كما انه يشير إلى العلاقة تفاعلية مع الدولة على اعتبار أن الدولة تنظم علاقات الافراد وتعاملهم من خلال القوانين والقواعد السائدة، في الوقت الذي تتمكن فيه بعض المصالح الخاصة من اختراق نظام الدولة ونقل وظائف معينة جديدة لها.

ومن بين التعريفات أيضا نجد تعريف B. Badie المجتمع المدني هو: ” كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة دون تدخل أو توسط الحكومة:

فالمجتمع المدني هو ظاهرة أوربية المنشأ رافقت ظهور البرجوازية كطبقة صاعدة على أنقاض الاقطاعية، ولا يمكن فصلها عن التحولات العميقة التي طالت بنى المجتمعات الأوروبية، في مستويات الاقتصاد والانتاج كما في مستويات الثقافة والفكر منذ مرحلة النهضة.

لقد أفرزت التحولات التي شهدتها المرحلة علاقات اجتماعية جديدة ترتب عليها إيجاد مؤسسات ومنظمات ينشط من خلالها الفاعلون الاجتماعيون.

اكتشف هؤلاء الفاعلين الجدد أهميتهم في الحياة العامة، وتقلهم كضمير اجتماعي تم راي عام له أهميته، بدءاً من اللحظة التي طرحت فيها قضية الانتخابات الديمقراطية وحقوق المواطن.

يرجع مفهوم “مدني “في استعمالاته إلى مفكري النهضة الذين يعتبرون المجتمع المدني امتدادا سياسيا للحالة الطبيعية، ويتموقع الحديث عن المجتمع المدني ضمن معرفة فلسفية كبيرة تتلخص في ثلاث مواقف حول تحديد مضمون مفهوم “المدني “.

يتجلى الموقف الأول في فلسفة جون لوك، حيث المجتمع المدني يختلف عن المجتمع السياسي، وليس عن مجتمع الدولة لكونه يفرض القانون كمعيار وكمرجعية لتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس.

والمجتمع المدني هو مجتمع القانون على أساس أن القانون هو ضامن الحرية وبذلك فالمجتمع المدني هو مجتمع القانون المنظم للحرية فهو يختلف عن المجتمع السياسي المنظم للسلطة.

الا أن الربط بين المجتمع والمدينة في مفهوم مركب هو مفهوم المجتمع المدني بدلالته الفلسفية والنظرية كان مع هيكل، الذي يذهب الى ان المجتمع المدني هو كيان ليتميز عن الكيان الدولتي.

اما جرامشي فقد اعطى حياة جديدة للمفهوم، اذ عتبر أن البنى الفوقية مرادفة للمجتمع المدني، مما يجعل من المجتمع المدني سلطة مضادة لسلطة الدولة والسلطة المضادة هي السلطة المنظمة داخل المجتمع. والتي لا تأثير للدولة عليها، فالبني الفوقية هي مجموع المؤسسات التي تتولى تربية الفرد كالمدرسة، الاسرة، الحزب، النقابة…. أما المجتمع السياسي فيتمثل في الدولة بأجهزتها القانونية السياسية والبوليسية، والعلاقة بين المجتمعين نزاعية حيث تسعى الدولة دائما إلى إستعاب هذه المؤسسات التي تنتمي إلى المجتمع المدني، وجعلها تحت قيادتها واخضاعها لسلطتها.

المجتمع المدني مفهوم سياسي لا يحمل دلالة واحدة لا تتغير، بل هو مفهوم متعدد المعاني والدلالات، لهذا تطرح مسألة المجتمع المدني، بنوع من الحذر المعرفي العلمي باختلاف التجارب،

وفي التجربة المغربية يؤخذ بالمقاربات الثلاث بما أن التحول نحو مسألة المجتمع المدني فكراً وممارسة لا يُعبر في الجوهر الا عن تحول المسرح السياسي ووجود تغييرات بنيوية، تدفعنا إلى البحث عن فضاءات متنوعة للعمل والتفكير.

فماذا نقصد ضمن هذه الاشكاليات بالمجتمع المدني في التجربة السياسية الثقافية المغربية؟

معلوم أن المغرب المستقل، وعلى رغم الاجتياح الكبير للمجال السياسي من طرف الدولة، عرف دائما حياة جمعوية نشيطة، مؤطرة من طرف الاحزاب السياسية أو مستقلة.

ولعب العمل الجمعوي، وما يزال دوراً تربويا واجتماعيا ومدنيا بالغ الاهمية، وطيلة العقود الثلاثة الاخيرة، تشكلت مئات من الأطر الجمعوية، تعاونيات في قطاعات مختلفة، وداديات، جمعيات محلية أو وطنية، الفنية، ثقافية أو اجتماعية، منظمات للمحافظة على البيئة، وحقوق الانسان، جمعيات نسائية وتجمعات مهنية … الخ.

ازاء هذه الحركية النشطة للجمعيات والمنظمات المستقلة والمؤطرة من طرف الاحزاب السياسية، تحركت البنية المخزنية للدولة المغربية في اتجاه تشجيع وخلق جمعيات جهوية كبرى، وضعت على رأسها مسؤولين سامين في الدولة، مدنيين وعسكرين، منحت لها صفة المنفعة العمومية، ووسائل مالية مهمة لدرجة أصبحت تتدخل في كل القطاعات والمجالات التي تهم الجهة أو الاقليم الذي يفترض فيما تمثيله.

ولعل ما يثير في الحقل السياسي المغربي هو قدرته على توليد عناصر الاحتواء والاستقطاب، سواء داخل النظام السياسي او من طرف احزاب المعارضة، الأمر الذي جعل من وضعية الاستقلال إزاء السياسي أمر غير مقبول ، إذ يتعين على كل ظاهرة جمعوية ان تندرج ضمن اطار ما، ويجب على المرء أن “يتموضع” وان تكون له هوية سياسية، معينة سواء داخل هيئات تقليدية أو حديثة، يجعل هذا الواقع، من مفهوم المجتمع المدني مفهوما إشكاليا في المناقشات الدائرة حاليا.

ويبدو الالتباس كبيراً في بعض الاحيان، وإرادة خلق البلبلة الدلالية أكبر، إذ تتقدم بعض الاحزاب السياسية باعتبارها الممثلة للمجتمع في حين أن منظمات أخرى تتصور المجتمع المدني في استقلال عن كل حسابات السياسة والسياسيين، طالما أن السياسة تضطر إلى التراجع في سياق المفاوضات والافاق المتعلقة بالمشاركة السياسية، أو بالتداول على السلطة، في حين أن مدنية المجتمع تفترض في ناشطيها خلق اليات خصوصية للتمثيل وايقاعا مستقلاً في التدخل، وأخذ الكلمة.

غير انه ما يلاحظ اليوم هو ان الاستعمال الجاري لمفهوم المجتمع المدني يتم وكأنه مجموعة من الحدود التي يجب وضعها امام سيطرة الدولة، وضد تدخل الاجهزة الادارية والامنية، وضد السلطات الواسعة التي تحوزها في مجال الاعلام.

رهان المجتمع المدني في المغرب هو رهان سياسي، فضلاً عن أنه معقد سوسيولوجيا، ذلك أن عملية التحضر والتمدن تعرف مقاومات شتى بسبب الهجرة الكاسحة نحو المدن.

فالطبيعة المركبة للمجتمع، والتداخلات الاقليمية والقبلية والجهوية، وكل المظاهر السابقة على الحداثة تؤثر، بقوة على السلوكات المدنية للمواطنين، وتحدّد بشكل سلبي، أحيانا، نمط حضورهم في المجال العمومي الذي يبقى مراقباً من طرف مختلف مستويات العمل السياسي، سيما وأن النزوع الابوي مازال يعاند الاقرار بصفة المواطنة للأفراد والجماعات،

والزبونية تشكل أحد المظاهر المحركة للعلاقات بين الناس، مشوشة بذلك على بروز معايير موضوعية توجه السلوكات المدنية، ويمكن الحديث عن ثلاث نماذج من الزبونية، يتمثل الأول في الشبكة الأدائية الصرفة التي تتكون حول رجل يحوز سلطة ما ولا يضمن استمراريته بفقدانه لهذه الوظيفة.

ويظهر النموذج الثاني في الجماعة المتضامنة في شكل عصبية تقليدية قبيلة، قرية، عائلة ممتدة …. يسبق وجودها ونمط اشتغالها على مجتمع الدولة، ولكنها تتمكن من اختراق الحقل السياسي مع ذلك، ثم أخيرا، جماعة التضامن الحديث وهي جماعة لم يكن لها وجود سابق على الدولة، بل على ان الدولة هي التي أوجدتها، ويتكون تجمع من هذا النوع من خلال المجال السياسي الحديث ويشتغل بوصفه جماعة متضامنة حسب أنماط العلاقات الشخصية المشابهة لأساليب العصبية القبلية، بحيث تدير السلطة لمصلحتها الخاصة بل وضد المجتمع التقليدي في بعض الحالات.

إن تشابك النسيج المجتمعي، وانغلاق العلاقات ما بين الافراد وطبيعة الحقل السياسي المغربي، عوامل لا تسعف في خلق شروط إمكان أخذ الكلمة بطرق مستقلة أو القيام بممارسات منظمة متبرئة من الارتهانات السياسية، تصب في اتجاه وضع أسس لتحركات اجتماعية ذات صفة مدنية.

فضلا عن ذلك ومن بين الصعوبات التي تحول دون بروز مجتمع مدني، هناك الافكار المسيطرة، والتشكيلة الايديولوجية، والثقافة السياسية التي تمثل أنماط حاسمة في تأثيرها، وتكتسب هذه العوائق، إلى جانب الوضع المؤسسي، طابعا بنيويا، الأمر الذي يدعو البعض إلى القول بأن المناخ العام في المغرب لا يساعد على انبثاق مجتمع يجوز نعته بالمدني. وأن التشكيلة الايديولوجية المغربية لا تبدوا أنها تسمح للمجتمع المدني بالتأكيد على ذاته، لسبب أساسي وهو أن النخب المغربية، وبدون استثناء تمثل العمود الفقري للنظام، وتلتقي مع أجهزة الدولة بشكل وثيق هذا بالإضافة الى أن وضعية التبعية الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المجتمع تضعه أمام الدولة المخزنية ضمن علاقات قوية من الزبونية.

ازاء التحولات الكبيرة والمتسارعة التي يشهدها المغرب ومحيطه الاقليمي، تشتغل مختلف اجهزة النظام السياسي ببطئ شديد، سواء من طرف مؤسسات النظام السياسي أو من جهة التشكيلات السياسية المختلفة، فتعدد بنيات السلطة واختلاف الثقافات السياسة التي تسندها، المرتبطة بالطبيعة الجمعية والمركبة للمجتمع المغربي تجد نفسها أمام نزوعات متنوعة ، ومن جميع المستويات والشرائح ، تطالب بحقها في المشاركة وفي الشفافية، الأمر الذي يدعو إلى القول بأن المجال السياسي يجتاز مرحلة حاسمة من تاريخه ،إذ ان توازنه يبدو وكأنه متوقف على إصغاء حقيقي قياسًا إلى مستويات اتخاذ القرار، فضغوط الاقتصاد الليبرالي ومدنية المجتمع ، و تمدرس فئات واسعة من الشباب، على الرغم من النسبة المفزعة للامية التي تصل إلى 67 بالمائة و انتزاع حق الكلام من طرف المرأة ومنظمات حقوق الانسان. كل هذه الحركات تعبر بطرق مختلفة عن حيوية المجتمع المغربي إزاء تقاليد سياسية عتيقة او عادات انتظاريه سلبية.

فالمجتمع المغربي يغلي بنقاش عمومي يتناول كل القضايا، وعلى قواه الحية أن تتحلى بالشجاعة المطلوبة لكي تشيع في المجتمع قيم الفكر الديمقراطي العصري الذي عماده المساواة والحرية والعقلانية، ولكي يتم ذلك لابد من فهم الماضي فهما يجعلنا نتخذ مسافة منه، لكي لا يتحول بكل مساوئه من جديد الى مستقبل.

*باحث في علم السياسة والقانون الدستوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى