مجتمع

جيل الحرف الأخير 

 

بقلم : الحسان الغوالي

 

 

في زمنٍ تتكاثر فيه الوسائل ويضيع فيه الهدف،

وفي عالمٍ يتحدث عن التقدّم بينما يعيش في تراجعٍ أخلاقي مدهش،

تبدو البشرية وكأنها تمشي إلى الأمام بخطى ثابتة… نحو الهاوية.

لقد صار الكذب مهارة، والفساد نظامًا، والسكوت حكمةً تُدرَّس،

حتى غدت الحقيقة ضيفًا ثقيلاً لا أحد يرغب في استقباله.

ومن بين هذا الركام، وُلد جيلٌ جديد لا يشبه من سبقه:

جيل Z؛ الجيل الذي نشأ في حضن الإنترنت قبل أن ينطق أولى كلماته،

جيلٌ يتعلم من الشاشة أكثر مما يتعلم من الإنسان،

يرى العالم كله في كفّه، لكنّه يشعر بالعزلة في قلب الزحام.

هو جيلٌ يشكّ لأنه رأى الخديعة متقنة الصنع،

ويُسيء الظن لا حقدًا، بل حذرًا من زمنٍ صار الصدق فيه ضربًا من السذاجة.

غير أن فهم هذا الجيل لا يكون بالنقد، بل بالتأمل في العالم الذي أنجبه.

فالعولمة التي وعدت بالحرية لم تأتِ إلا بقيودٍ من نوعٍ آخر،

قيودٍ ناعمة تُدار من وراء الشاشات وتُبرَّر بمفرداتٍ براقة:

حقوق، تسامح، تنمية، وشراكات… لكنها في الحقيقة خيوطٌ من حريرٍ تُخنق بها إرادة الشعوب.

هكذا، صار الإنسان في القرن الحادي والعشرين أكثر اتصالًا بالعالم،

وأقل اتصالًا بنفسه.

على أن هذه الصورة الملبدة لا تقتصر على الخارج؛

ففي الداخل تتجلى مأساةٌ أخرى،

مأساة الأوطان التي تتحدث بلغة الإصلاح وتتحرك بمنطق الترقيع.

الوطن اليوم لم يعد حُلمًا جماعيًا بقدر ما أصبح معادلةً اقتصادية،

فيها المواطن بندٌ في الميزانية، والحلمُ رقمٌ في تقريرٍ دولي.

كل أزمةٍ تُجابَه باللجان والاجتماعات و“ميزانيات الطوارئ”،

لكن الأموال التي تُصرف لإخماد الغضب كانت كافية لتفاديه لو وُظّفت بصدق.

فما أُنفِق لشراء الصمت كان أجدر أن يُنفَق لشراء جهازٍ طبي،

وما صُرف لتجميل الصورة كان كافيًا لتجميل الواقع نفسه.

وهكذا يترسّخ المرض الأخطر: الفساد الذي لم يعد يُرتكب خفيةً،

بل يُمارس علنًا تحت شعار “هذا حقٌّ مكتسب”.

العبارات التي كانت تُقال تبريرًا أصبحت تُقال اعتزازًا،

والمخالفة لم تعد جريمة بل “ذكاء اجتماعي”.

إنها ثقافة “إذا عمت هانت”،

تلك التي تُسقط الذنب عن الجميع لأنها تشمل الجميع.

فحين يتساوى الشريف والفاسد في النتيجة،

لا يبقى من العدالة سوى اسمها القديم في الكتب.

 

ومن هنا، يتقدم السؤال الأخلاقي الحاد:

هل الفساد في السلطة وحدها أم في المجتمع كله؟

إن الشعوب التي تبرّر الخطأ لأنها اعتادت رؤيته،

تتحوّل بمرور الوقت إلى شريكةٍ في صناعته.

لقد باع البعض صوته طوعًا،

وسكت آخرون لأنهم لم يعودوا يؤمنون بجدوى الكلام،

وتماهى الكثيرون مع الفساد الصغير لأنهم رأوا الكبار ينجون من العقاب.

ومع ذلك، لا يمكن محاسبة الجائع كما يُحاسَب الشبعان،

ولا اليائس كما يُحاسَب المنتفع؛

فالسكوت هنا ليس دومًا خيانة، بل أحيانًا عجزٌ عن الصراخ.

على حينٍ، يتكفل الإعلام بإتقان دور المخرج،

فيحوّل المأساة إلى عرضٍ متقنٍ بالإضاءة والموسيقى.

يتحدث عن الحقائق كما لو كانت مسلسلاً،

ويقدّم الرأي كأنه خبرًا مؤكّدًا،

ويغسل الأخطاء بعباراتٍ ناعمةٍ لا تقول شيئًا ولا تصمت تمامًا.

لقد صار الإعلام مدرسةً لتدجين العقول،

يُقنع الناس أنهم يرون كل شيء بينما يخفي عنهم ما يجب أن يُرى.

في المقابل، غابت القيادة الحقيقية وظهرت قيادة الظلال:

مؤثرون رقميون يقودون المزاج العام من خلف الشاشات،

يتحدثون باسم الوطن، ويختفون حين تسيل الفوضى.

جيل Z يتبع الرموز لا الأشخاص،

لكن الرموز هذه المرة بلا قيمٍ ولا بوصلة،

تُلهم الغضب ولا تقدّم الحل،

فتتحوّل الحرية إلى فوضى، والاحتجاج إلى عادةٍ موسمية.

بيد أن هذا الجيل ليس عدوًّا للوطن، بل مرآته الصادقة.

إنه جيل الوعي المرهق؛

يرى كل شيء، لكنه لا يجد يقينًا يستند إليه.

عقله مشبع بالمعلومة، لكن قلبه جائع للمعنى.

يشكّ لأنه لم يجد من يصدّقه،

ويُسيء الظن لأن الصدق صار نادرًا كالعدل.

ومع ذلك، فإن هذا الشكّ لا يعني الرفض، بل الرغبة في فهمٍ أعمق.

هو جيلٌ يبحث عن يقينٍ جديدٍ بعد أن خذلته يقينات الكبار.

 

من هنا، ينبغي أن نفهم أن الشكّ ليس عيبًا،

بل هو الخطوة الأولى نحو اليقين،

وسوء الظن ليس سلبية، بل الحذر من تكرار السذاجة.

فمن يُصدّق كل ما يُقال، يعيش عبدًا،

ومن يشكّ في كل شيء، يموت غريبًا؛

أما من يوازن بين الشكّ والإيمان،

فهو الذي ينجو من خداع هذا العصر.

وفيما بعد، لا يكون الإصلاح بهدم المؤسسات أو تصفية الحسابات،

بل بإعادة بناء الضمير الجمعي.

ذلك الضمير الذي غُيّب عمدًا حين اختلطت المصلحة بالمبدأ،

وحين تحوّل الوطن إلى ماركةٍ يتاجر بها كلٌّ على طريقته.

نحن بحاجةٍ إلى ثقافةٍ جديدة،

ثقافةٍ تُعيد للوطن هيبته عبر الصدق لا عبر الشعارات،

وثقافةٍ تُعلّم المواطن أن يسأل قبل أن يُصفّق،

وأن يُحبّ وطنه لا لأنه مثالي، بل لأنه قابل للإصلاح.

وفي نهاية المطاف،

لن ينهض هذا الوطن بمؤتمراتٍ تُدار في الفنادق،

بل بضمائر تستيقظ في البيوت والمدارس والقلوب.

جيل Z ليس خطرًا على الدولة،

بل الدولة في خطرٍ إن لم تُصغِ إلى ما يقوله هذا الجيل.

فهو المرآة التي تعكس وجوهنا الحقيقية،

والجرس الذي يذكّرنا أن المستقبل لا يُصنع بالتمنّي بل بالفعل.

لقد آن الأوان أن نتوقف عن البحث عمّن نُحاسبه،

ونبدأ بمحاسبة أنفسنا.

فما دُمنا نُخفي الحقيقة خوفًا من انكشاف العورات،

فإننا لا نحمي الوطن، بل نحمي فسادنا منه.

إن استعادة الضمير ليست شعارًا أخلاقيًا،

بل هي الشرط الأول لبقاء الإنسان إنسانًا،

والوطن وطنًا لا شركةً للمصالح.

وهكذا، سيبقى الشكّ هو أول الطريق إلى اليقين،

وسوء الظنّ هو الحزم في زمن الخداع،

وسيظل الأمل ممكنًا ما دام هناك من يجرؤ أن يقول:

“لن نطلب محاسبة أحد… بل نطلب فقط أن يستيقظ الضمير.”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى