التزكيات أو الوزيعة: أزمة قيم أم خلل بنيوي في الممارسة السياسية؟

بقلم : الدكتور جمال العزيز
تُعتبر مرحلة منح التزكيات السياسية في المغرب مع اقتراب كل استحقاق انتخابي لحظة كاشفة لبنية النظام الحزبي ومستوى نضج الممارسة السياسية. فهي لا تُجسِّد فقط منطق التنافس الديمقراطي، بل تكشف أحيانا عن أعطاب قيمية وبنيوية حين تتحول التزكية من آلية لتأطير الكفاءة والجدارة إلى مجرد وسيلة لتوزيع الإمتيازات، أشبه بما يُعرَف بـ«الوزيعة السياسية». عندها، تفقد التزكية معناها الديمقراطي، وتتحول إلى مرآة تُعرِّي البنية الداخلية للأحزاب وتُظهر مدى ضعفها التنظيمي والأخلاقي.
من الناحية النظرية، يُفترض في التزكية أن تكون أداة مؤسساتية قائمة على معايير واضحة: التجربة، الكفاءة، الإلتزام الميداني، والقدرة على تمثيل المواطن بصدق ومسؤولية. غير أن الواقع السياسي يكشف عن انزياحات متكررة تُخضِع هذه العملية لحسابات الولاء والقرابة والمصالح، مما يُفرغها من بُعدها الديمقراطي ويُدخلها في منطق الزبونية السياسية. وهكذا تُستبدَل فلسفة الإستحقاق بممارسة الإمتياز، ويصبح الحصول على التزكية مكافأة على الولاء لا على العمل، مما يُضعف الثقة داخل الأحزاب ويُعمِّق الهوة بين المواطن والنخبة الحزبية.
تُعيد «الوزيعة السياسية» إنتاج منطق الغنيمة في الفعل السياسي. فهي ليست مجرد سلوك فردي، بل مؤشر على ضعف البنية المؤسساتية للأحزاب وغياب آليات التقييم الموضوعي والرقابة الداخلية. وحين تُمنح التزكيات بمنطق المصلحة أو الترضية، فإنها تُقوِّض مبدأ تكافؤ الفرص وتُضعف الإيمان بالسياسة كخدمة عمومية، لتتحول إلى مجال لتقاسم النفوذ والمصالح بدل التنافس حول المصلحة العامة.
وفي مقابل هذه الممارسات، تَبرُز التوجيهات الملكية السامية كمرجعية أخلاقية واستراتيجية لإعادة الاعتبار لقيمة الكفاءة وتجديد النخب السياسية؛ إذ دعت في أكثر من مناسبة إلى إفساح المجال أمام الطاقات الشابة والكفاءات النسائية للمشاركة في تدبير الشأن العام،والإنفتاح على نخب ملتزمة قادرة على ترجمة المشاريع التنموية الكبرى على أرض الواقع. هذه التوجيهات لا تعكس فقط إرادة ملكية في ترسيخ المسار الديمقراطي، بل تؤسس لرؤية جديدة في تدبير السياسة، تقوم على التجديد والإبتكار والفعالية بدل الولاء الأعمى والمحسوبية.
ومع اقتراب الإنتخابات التشريعية المنتظرة في شتنبر 2026، يجد الفاعلون الحزبيون أنفسهم أمام اختبار دقيق: فإما أن يختاروا نهج الشفافية والجرأة في تجديد نخبهم، وإما أن يستسلموا لمنطق التوازنات الداخلية الذي يُبقي المشهد السياسي في حالة ركود. فالتزكية لم تعد مجرد ورقة انتخابية، بل أصبحت مؤشرا على مصداقية الحزب ومقدار التزامه بروح الدستور الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة.
إن تجاوز هذه الأزمة لا يتحقق عبر التنديد فقط، بل من خلال إرساء ميثاق وطني يؤطر عملية التزكية بمعايير الكفاءة والنزاهة والإلتزام الوطني. فالممارسة السياسية الحديثة لا يمكن أن تُبنى على الغموض أو المساومة، بل على وضوح في القيم وإيمان بأن الشرعية اليوم لا تُمنح، بل تُكتسب بالعمل والإنجاز والوفاء للمصلحة العامة.
إن أزمة التزكيات ليست أزمة أشخاص بقدر ما هي أزمة قيم. وما لم تُدرك الأحزاب المغربية أن المرحلة القادمة تتطلب كفاءات ميدانية قادرة على الفعل لا المحاباة ، وعلى الحوار و الإقناع ، فإنها ستظل تدور في حلقة مفرغة. فمغرب اليوم، الذي يَشق طريقه بثبات في مسار الإصلاحات الكبرى، يحتاج إلى نخب سياسية تُجسد هذا التحول التاريخي، لا إلى نُخب تستهلك المشهد السياسي وتُعيد إنتاج أعطابه.
ومن هذا المنطلق، بادرت الدولة باقتراح دعم الشباب في الإنتخابات المقبلة، في خطوة عملية تعكس التزام المؤسسات بإدماج الشباب كركيزة أساسية لتجديد الفعل السياسي وتعزيز التمثيلية الديمقراطية.
إن منطق «الوزيعة» لم يعد صالحا في زمن الكفاءة، ومنطق التعالي في السياسة قد انتهى، لتحل محله ثقافة الجدارة والمسؤولية المُواطِنة التي تُعيد الإعتبار للسياسة كفن لخدمة الوطن والمواطن.
				
					



