مجتمع

من شرعية التمثيل إلى شرعية الإنجاز: نحو إعادة بناء الفعل السياسي المحلي

 

بقلم: الدكتور جمال العزيز

 

لم تعد السياسة، في معناها العميق، فعلا ظرفيا مرتبطا بالإنتخابات أو موسما لتبادل الإتهامات، بل أصبحت اليوم امتحانا دائما لمدى قدرة الفاعل العمومي على تحويل السلطة إلى خدمة، والتمثيل إلى إنجاز، والخطاب إلى أثر ملموس في حياة الناس. فالمجتمعات لم تعد تقاس بدرجة حرارة الشعارات التي ترفع فيها، بل بمدى دفء العدالة الإجتماعية التي يشعر بها مواطنوها في تفاصيل يومهم العادي.

 

لقد أفرزت التحولات المتسارعة التي يعرفها العالم، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، واقعا جديدا لم يعد يسمح بالسياسة التقليدية التي تعيش على إعادة إنتاج ذاتها. المواطن اليوم أكثر وعيا، أقل صبرا، وأشد قدرة على التمييز بين من يشتغل فعلا ومن يكتفي بالتسويق لنفسه. وهو وعي جعل من الثقة السياسية موردا نادرا، لا يُكتسَب بالخطاب، بل يُبنى بالتراكم، ويُفقَد بخطأ واحد حين يتحول الوعد إلى عبء، أو الإنجاز إلى استثناء.

 

في هذا السياق، تَبرُز الشعبوية كأحد أعراض الأزمة ، فهي تزدهر حين يضعف الأداء، وتنتعش حين تغيب الرؤية، وتقدم نفسها بديلا مؤقتا عن السياسات العمومية الجادة. غير أن التجارب المتعددة أثبتت أن الشعبوية، مهما بدت جذابة في لحظتها، تفتقر إلى القدرة على الإستدامة، لأنها تشتغل على العاطفة وعلى خلق الخصوم بدل بناء الحلول. وهي بذلك تُعمِّق فجوة الثقة ، وتؤجل الإصلاح بدل إنجازه.

 

إن الفعل السياسي الحقيقي، خصوصا على المستوى المحلي أصبح ورشا مفتوحا للتدبير الرشيد، والتخطيط الإستراتيجي، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

 

فالمدينة اليوم ليست مجرد مجال ترابي، بل فضاء للتنافس التنموي، ومختبرا لنجاعة السياسات العمومية، ومرآة تعكس صدقية الفاعلين فيها. ومن لا يمتلك تصورا واضحا للتنمية المحلية، ولا يؤمن بالعمل الجماعي، ولا يتقن لغة الأرقام والبرمجة، سيظل أسير الإرتجال مهما حسنت نواياه.

 

لقد آن الأوان للإنتقال من سياسة رد الفعل إلى سياسة الإستباق، ومن تدبير اليومي إلى بناء المستقبل، و تكريس منطق التعاقد. تعاقد جديد يجعل المواطن في قلب القرار، لا على هامشه، ويعيد تعريف المشاركة باعتبارها شراكة في المسؤولية لا مجرد آلية شكلية. فالمواطن حين يُشرَك بصدق، يصبح جزءا من الحل، وحين يُقصى، يتحول إلى ناقد دائم أو معارض صامت.

 

إن السياسة في جوهرها ليست بحثا عن مواقع، بل دفاع عن معنى. معنى أن تكون في موقع القرار لتُحدِث فرقا، لا لتُدير الإنتظار. ومعنى أن تتحمل المسؤولية باعتبارها تكليفا أخلاقيا قبل أن تكون تفويضا انتخابيا. وفي زمن تتآكل فيه الثقة بسرعة، لا يبقى للفاعل السياسي سوى رصيد واحد قابل للإستثمار: الصدق في الإلتزام، والجرأة في الإصلاح، والوضوح في التواصل.

 

لقد تغيرت قواعد اللعبة، ولم يعد المواطن يبحث عمن يتقن الكلام، بل عمن يتقن الفعل. ولم تعد السياسة مجالا لمن يرفع صوته أكثر، بل لمن يشتغل بصمت أكثر ويُنجِز بوضوح أكبر. ومن لا يستوعب هذا التحول، سيجد نفسه خارج الزمن السياسي الجديد، مهما طال حضوره في المشهد.

 

إن المستقبل السياسي لن يكون امتدادا للماضي، بل قطيعة ذكية معه. قطيعة لا تعني النفي، بل تعني تجاوز الأساليب البالية، والخطابات المستهلَكة، والممارسات التي فقدت صلاحيتها.

 

وفي هذا الإطار، لا يمكن الحديث عن تجديد الفعل السياسي المحلي دون استحضار الرؤية الملكية المتبصرة التي جعلت من التنمية، والعدالة المجالية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، مرتكزات ثابتة في بناء النموذج المغربي. فالتوجيهات الملكية لم تكن يوما شعارات ظرفية، بل اختيارات استراتيجية مُستدامة، راهنت على الإنسان المغربي، وعلى قدرته على التكيف، والإبتكار، وتحويل التحديات إلى فرص؛ وهو ما يفسر خصوصية الإستثناء المغربي.

 

ولعل ما حققه المغاربة في المستطيل الأخضر، من تألق عالمي غير مسبوق، ليس حدثا رياضيا معزولا، بل تعبير رمزي عن إرادة جماعية، وعن جينات مغربية لا تقبل السقف المنخفض، ولا تؤمن بالمستحيل، حين تتوفر الرؤية، والإنضباط، والعمل الجماعي. وهي القيم نفسها التي يفترض أن تؤطر الممارسة السياسية، وأن تحولها من تدبير محدود الأثر إلى مشروع وطني يعكس طموح دولة وثقة شعب في مستقبله.

 

ففي النهاية، السياسة التي لا تُجَدِّدُ نفسها، تُستبدَل، والمواطن الذي لا يجد نفسه في الفعل السياسي، يبحث عن بدائل خارج الأحزاب والمؤسسات. وحينها، لا يكون الخطر في التغيير، بل في التأخر عنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى