2026 سنة ميلادية جديدة: فرصة للمحاسبة

كتبه: د. يوسف الحزيمري
تعد بداية السنة الميلادية فترة مهمة للمحاسبة المالية سواء للحكومات في وضع الميزانيات السنوية، أو للأفراد والشركات، لما يرتبط بذلك من حقوق الله كالزكاة، وحقوق الأشخاص كالنفقة وكالديون، وما يتعلق منها بحقوق الدولة كالضرائب وغيرها.
وتتم هذه العملية عبر الاستعانة بـ: (الخبراء المحاسبين) لما في ذلك من أهمية في ضمان الدقة والامتثال الضريبي، والتخطيط المالي الاستراتيجي، ورفع كفاءة الرقابة الداخلية، وتسهيل الوصول للتمويل.
وإذا كان المال عصب الحياة، ولا يمكن الاستغناء عنه، ويجب الحفاظ عليه باعتباره من الكليات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية للحفاظ عليها من جانب الوجود والعدم.
فإن الدين يأتي في أولى الأولويات التشريعية، وفي مقدمة ترتيب هذه الكليات، لذا كان من أوكد وأوجب الضرورات هو الحفاظ على الدين لأن بتحققه والتمسك به تستقيم أمور الكليات الأخرى.
فإذا كان الوازع الديني في النفوس فهو الذي يحقق في المعاملات المالية الأمانة والصدق، واجتناب المعاملات المحرمة، وإخراج الزكاة بدقة، والعدل في حقوق الشركاء والأجراء، والشفافية والمساءلة.
إذا كان الاهتمام بالمالية تفرضه الضرورة الدنيوية والقانونية، وضرورة توفير النتائج الملموسة ومؤشرات أداء واضحة (ربح/خسارة) يمكن قياسها وتحسينها باستمرار، وضرورة تأمين المعيشة والاستقرار، فإن محاسبة النفس في إطار الدين تفرضها أيضا الغاية الأسمى والنجاة الأخروية، وتجنب العقاب الأعظم، والجودة الشاملة للحياة (الحياة الطيبة).
فمحاسبة النفس بشكل دوري أو سنوي في مدى التزامها بتعاليم الدين، هو المحدد لكيفية استخدام المال الذي جنته المحاسبة المالية، هل في الخير أم الشر؟
ولقد حظيت محاسبة النفس بمكانة مركزية وضخمة في مؤلفات العلماء، لا سيما في كتب الرقائق، والزهد، والتصوف، وفقه السلوك، حيث اعتبروها ركناً أساسياً من أركان الاستقامة والتربية الروحية.
ومما أكدوا عليه أن الشخص العاقل عليه مخاصمة نفسه، ومحاسبتها، والقضاء عليها، والإثابة والتنكيل بها؛ والإثابة من الثواب والتنكيل من العقاب؛ أي مكافأة نفسه على ما عملته من عمل صالح، ومعاقبتها على ما عملته من عمل فاسد.
وأكدوا أيضا على لزوم تلك المحاسبة، والانشغال بالنفس وإصلاحها بالمجاهدة، والمبادرة بطاعة اللَّه واجتناب محارمه؛ لأن القلوب تموت وتحيا، فإذا هي ماتت فيجب حملها على الفرائض، فإذا حييت يجب تأديبها في التطوع.
وأيضا حملها على المسارعة إلى الخيرات، فإن الله لا يجعل عبدًا أسرع إليه كعبدٍ أبطأ عنه، قال تعالى: {أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ} [القلم: 35-36]
وأُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدا، أن تحاسبوا أنفسكم وتزنوا للعرض الأكبر» {يَوۡمَئِذٍ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَة} [الحاقة: 18]
وهذا اليوم هو اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، وهو يوم المناقشة، ويوم المحاسبة، ويوم الموازنة، ويوم المساءلة.
وهو ما ينبغي أن يضعه المؤمن نصب عينيه في حياته الدنيا لأنها إنما هي مزرعة للآخرة، ففي الأولى فليعمل للثانية التي يجعلها همه، قال الحارث المحاسبي: «نِعْمَ الصَّاحبان الهم والحزن بِأَمْر الْآخِرَة، وَنِعم الشُّغل المحاسبة»، وقال أيضا: «وأصل فَسَاد الْقلب ترك المحاسبة للنَّفس، والاغترار بطول الأمل»
فالهم بالآخرة يطرد الغفلة، ويدفعك للاستعداد والعمل الصالح، فمن اهتم لشيء استعد له، ويحمي القلب من التعلق الزائد بالدنيا، فيجعل العبد يعيش فيها “كأنه غريب أو عابر سبيل”.
إن محاسبة النفس تدعونا إلى “إعادة توجيه المشاعر”؛ فبدلاً من أن نحزن على ما فاتنا من الدنيا، فلنحزن على ما فاتنا من الطاعة، وبدلاً من الانشغال بجمع المال أو القلق عليه، فلنشغل أنفسنا بمراجعة صحائف أعمالنا وتصحيح مسارنا نحو الله.



