مجتمع

درس بوجدور في النفسية الصحراوية: من الصفعة إلى التسامح.

محمد بن اعزة

 

في قاعة الدراسة بثانوية الراشدي ببوجدور، كان الأستاذ القادم من شمال المغرب يدير حصته الدراسية في جو مشحون بالتوتر. كان هناك تلميذ صحراوي، منحدر من قبيلة عريقة في المنطقة، يجلس في المقعد الأمامي محاولاً التواصل مع استاذه بلغة متحررة . كان الأستاذ متوتراً ذلك اليوم، ربما بسبب صعوبة التأقلم مع بيئة جديدة، أو حنينًا إلى مسقط رأسه ، وهو يفكر في الحركة الانتقالية إلى شمال المملكة.

وفجأة انفجر الغضب المكبوت داخل الأستاذ. ربما كان التلميذ قد تجاوز بعض الحدود في حواره مع أستاذه، متحدثًا دون خوف أو احترام لمفهوم الطاعة، وكان تعليقه الأخير القشة التي قصمت ظهر البعير. لكن ما حدث بعد ذلك كان خارجًا عن كل توقعات الأستاذ، فبدلاً من توجيه إنذار شفهي للتلميذ، رفع الأستاذ يده وصفع التلميذ أمام زملائه.

في ثقافة الصحراء، حيث الكرامة هي رأس المال الوجودي، لم تكن تلك الصفعة مجرد عقاب جسدي عابر، بل إهانة علنية وانتهاكًا للحدود غير المرئية التي تحفظ مكانة الفرد في المجتمع الصحراوي. التلميذ، الذي تربى على أن الكرامة أغلى من الحياة نفسها، لم يستطع السكوت. نظرة واحدة متبادلة بينه وبين زملائه كانت كافية لإشعال فتيل المواجهة.

انتفض التلميذ كالأسد الجريح، وبدون تفكير، غرس “البيكار” في عنق أستاذه. لم يكن رد فعل مدبرًا أو محسوبًا، بل انفجارًا تلقائيًا للنفس الصحراوية التي لا تقبل الذل. تحول المشهد إلى فوضى، صرخات الذعر، دماء، واستعجال بنقل الأستاذ إلى المستوصف.

في المجتمع الصحراوي، يعتقد البعض أن الرد على الإهانة ليس خيارًا بل واجبًا. الكرامة هنا ليست مجرد مفهوم، بل نظام قيم يحدد مكانة الفرد وقيمته الاجتماعية. التلميذ لم يدافع عن نفسه فقط، بل عن كرامة أسرته وقبيلته بأكملها.

انعقد المجلس التأديبي على عجل، وكانت المفارقة أن أعضائه جميعًا من أساتذة شمال المملكة، معظمهم يفتقرون لفهم الثقافة الحسانية وخصوصيات المجتمع الصحراوي . استمع المجلس إلى رواية الأستاذ، وقرر فورًا طرد التلميذ. القرار بدا ٱنداك إداريا من منظور النظام التعليمي الرسمي، لكنه تجاهل السياق الثقافي للحادثة.

الأستاذ، بعد أن تعافى من جراحه، دخل في دوامة من الخوف والعزلة. لقد أدرك أنه تجاوز الخط الأحمر، ولم يكن خوفه من العقاب الرسمي، بل من ردة فعل المجتمع الصحراوي ومن تلك الكرامة الجريحة التي قد تتحول إلى انتقام أوسع. هنا بدأت رحلة المصالحة الحقيقية. كنت آنذاك حارسًا عامًا في المؤسسة، وأدركت أن حل الأزمة لن يأتي من التطبيق الحرفي للقوانين فقط، فقررت أن آخذ الأستاذ إلى بيت والد التلميذ، سيد أحمد، أحد أعيان قبيلتة الصحراوية معروف بحكمته .

ما جرى في بيت سيد أحمد كان درسًا في الثقافة الصحراوية بكل أبعادها. استقبلنا الشيخ كضيوف، قدم لنا الشاي والحليب في طقس من طقوس الضيافة المتوارثة التي لا تميز بين صديق وخصم. جلسنا نتناول الشاي ونتبادل أطراف الحديث عن الحياة والعلم والأخلاق وتعايش قبيلته مع الأنصار، تاركين للوقت دوره في تطييب النفوس.

وحين كشفت لسيد أحمد أن مرافقي هو الأستاذ نفسه، لم يغضب أو ينتفض، بل نظر إليه نظرة حكيمة وقال له: “ما دمت جئت إلى بيتي، فأنا مستعد أن أقدّم لك ابني معصوم اليدين لتؤدبه كما تشاء.” في تلك اللحظة انهمرت دموع الأستاذ، لم تكن دموع ألم أو خوف، بل دموع ندم واختناق مشاعر. احتضن التلميذ في مشهد نادر يختزل جوهر النفس الصحراوية: كرامة لا تنكسر، ومروءة لا تعرف الحقد. التلميذ، الذي كان قبل أيام يغرس البيكار في عنق أستاذه، وقف الآن منحنياً أمام حكمة والده وعظمة التسامح، وقد فهم درسًا في الأخلاق لا يقل أهمية عن أي درس في المنهج الدراسي.

برغم بساطة القصة، فهي تختزل حقائق كبرى عن الإنسان الصحراوي وعن أفضل الطرق للتعامل معه، خاصة في المرحلة الحساسة التي قد تشهد المملكة خلالها عودة الصحراويين المنتسبين للإقليم من مخيمات تندوف إذا نجح المجتمع الدولي في إقناعهم بأهمية الحكم الذاتي والعودة للوطن الأم. تثبت هذه القصة أن الصحراوي يستجيب للإهانة بالمقاومة، وللتقدير بالولاء. استقبال العائدين المحتملين يحتاج إلى فهم هذه المعادلة النفسية العميقة؛ فبرامج الإسكان والبنية التحتية وحدها لن تكفي إذا لم ترافقها سياسات واضحة لحماية الكرامة والاعتراف بالمعاناة. لابد من الاعتناء بالإنسان قبل الحجر. العائد من تندوف، الذي عاش سنوات يردد أن مخيماته هي “مخيمات العز والكرامة”، يحتاج أن يجد هذه العزة والكرامة في وطنه الأم، كرامة أعظم، وعزًا أعمق، واعترافًا أوسع بثقافته وهويته.

لقد أثبتت تجربة بوجدور أن مفتاح القلوب الصحراوية يمر عبر بوابة الكرامة. والمساواة التي أكد عليها جلالة الملك محمد السادس في ٱخر خطاب له بين العائدين المحتملين و المتواجدين داخل الوطن يجب أن تترجم على الأرض في شكل سياسات عملية تمنح العائدين الشعور بالعدالة والإنصاف والاعتراف واحترام خصوصياتهم الصحراوية، لخلق مساحات للحوار والمصالحة المجتمعية في وطن يتسع للجميع .وكما تحولت صفعة الفصل إلى مصافحة في بيت سيد أحمد، يمكن أن تتحول تجربة اللجوء إلى قوة دافعة للبناء والتنمية إذا أحسنا فهم النفسية الصحراوية. فالكرامة المصانة تبني أوطانًا، بينما الكرامة المنتهكة تهدم كل شكل من أشكال التعايش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى