مجتمع

روسيا و الهند : تحولات جيوسياسية كبرى في المشهد العالمي 

 

بقلم : البراق شادي عبد السلام

 

ركزت الدوائر السياسية والاستراتيجية العالمية على مخرجات القمة الثالثة والعشرين بين روسيا والهند، والتي تعد تجسيدًا واضحًا لسياسة الاستقلال الاستراتيجي التي تتبناها نيودلهي. فهذا الحدث يمثل تطورا استراتيجيا يحمل دلالات عميقة تتجاوز نطاق العلاقات الثنائية التقليدية ، حيث ​تؤكد هذه الشراكة أن الهند تمارس خيارها السيادي في تنويع تحالفاتها وعلاقاتها الدولية دون الانحياز لمحور واحد ، محور موسكو-نيودلهي يوضح كيف يمكن أن يوظف الثقل الجيوسياسي المشترك لتعزيز الشراكة الاقتصادية والسياسية، لخدمة هدف إعادة بناء توازن عالمي متعدد الأقطاب.

 

حيث تُشكل القمة الثنائية الأخيرة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إعلاناً عملياً عن دخول الشراكة الاستراتيجية مرحلة جديدة من التسريع. ففي ظل تسارع التحولات على الساحة الدولية، وضعت موسكو ونيودلهي ثقلهما الجيوسياسي المشترك على الطاولة بهدف تفعيل وتيرة التعاون في القطاعات الحيوية. هذا التحالف يمثل قراراً استراتيجياً صارماً لضخ زخم غير مسبوق، بدءاً من حماية شريان الطاقة (حيث تؤمن روسيا ثلث واردات الهند من الخام) وصولاً إلى التحدي الاقتصادي الأبرز، وهو نجاحهما في تفعيل 96% من التسويات التجارية بالعملات الوطنية. القمة لم تكتفِ بالإشادة بهذه الإنجازات؛ بل تجاوزتها لرسم خطة اقتصادية طموحة ومُحددة زمنياً حتى عام 2030.

 

​يُعدّ الانتقال إلى تسوية 96% من التبادلات التجارية بين موسكو ونيودلهي بالعملات الوطنية خطوة نوعية تتجاوز مفهوم “تسهيل التجارة”، لتشكل تحدياً عملياً ومباشراً للهيمنة التقليدية للدولار الأمريكي في التجارة العالمية. هذا الإنجاز يرتكز بالكامل على إرادة سياسية عليا قررت تحصين شراكتها من تقلبات وعقوبات الأنظمة المالية الدولية. فمن خلال بناء هذا الجسر المالي المزدوج بين الروبل والروبية، تضمن روسيا استمرار تدفق عائدات صادراتها الحيوية، وتؤمّن الهند إمداداتها النفطية بأسعار تفضيلية بعيداً عن تقلبات أسواق الصرف العالمية. هذا الترتيب يرسخ نموذجاً جديداً للدول الساعية لتنويع احتياطاتها وتقليل مخاطر الاعتماد على عملة واحدة، ويفتح الباب واسعاً أمام تنفيذ برنامج التعاون الاقتصادي الطموح الذي يهدف إلى مضاعفة حجم التبادل التجاري عبر توسيع الاستثمارات المشتركة في الصناعة والتقنية والتعدين .

 

لم يقتصر التخطيط الاستراتيجي بين موسكو ونيودلهي على الجوانب المالية أو الأمنية، بل امتد ليلامس جوهر التحديات اللوجستية والجغرافية عبر إحياء مشاريع الربط القاري. في مقدمة هذه المشاريع يأتي “الإكسبريس كوريدور أو ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب ” (INSTC) ، الذي يُعد شرياناً حيوياً يهدف إلى اختصار المسافة وزمن نقل البضائع بين البلدين بنحو 40% مقارنة بالطريق التقليدي عبر قناة السويس. هذا الممر، الذي يربط الهند بشمال أوروبا عبر إيران وروسيا، يُنظر إليه بوصفه أداة فعالة لخفض تكاليف التجارة وتعزيز مرونة سلاسل الإمداد الثنائية، محصناً إياها من الاضطرابات الجيوسياسية. وتعمل القمة على تذليل العقبات البيروقراطية والفنية التي تواجه تنفيذ هذا الممر بكامل طاقته، مما يضمن أن البنية التحتية الصلبة تخدم الأهداف الاقتصادية الطموحة لعام 2030.

 

بالتوازي مع إحياء ممر (INSTC)، تمتد نظرة موسكو ونيودلهي الاستراتيجية لتلامس مناطق ذات ثقل جيوسياسي جديد، وفي مقدمتها القطب الشمالي. يمثل التعاون في المنطقة القطبية دلالة على الطموح المشترك لتعزيز الأمن الاقتصادي واللوجستي على الساحة الدولية، حيث يعكس هذا المسار حرص الهند على لعب دور مراقب نشط في مجلس القطب الشمالي، مما يرفع من ثقلها الدولي. ويتركز جوهر هذا التنسيق على دعم وتطوير الطريق البحري الشمالي (NSR)، الذي يُعد ممراً تجارياً يختصر المسافة بين آسيا وأوروبا، مما يعزز التجارة الثنائية ويوفر للهند ميزة لوجستية استراتيجية مكملة لممر (INSTC). وتؤكد هذه الشراكة، التي تشمل مجالات الطاقة واستغلال الثروات المعدنية في المنطقة القطبية، على ترسيخ البعد الجغرافي للشراكة الاستراتيجية بين البلدين حتى عام 2030 وما بعده.

 

في قلب هذا التسريع الاستراتيجي تقع مسألة ضمان أمن الطاقة، وهو هدف حيوي للنمو الاقتصادي الهندي. روسيا ترسخ اليوم مكانتها كصمام أمان جيوسياسي يضمن لنيودلهي إمدادات مستقرة وغير منقطعة، حيث تؤمن أكثر من ثلث احتياجات الهند من النفط الخام بأسعار تفضيلية بعيداً عن تقلبات الأسواق الدولية. هذه الشراكة تخدم مصالح موسكو أيضاً بفتح سوق استهلاكي ضخم وموثوق أمام صادراتها من الطاقة، مما يقلل من تأثير محاولات العزل الغربي. التعاون يتجاوز النفط ليشمل قطاعات حيوية طويلة الأجل، مثل مشاريع الطاقة النووية السلمية، وعلى رأسها محطة كودانكولام، مما يؤكد أن التعاون في الطاقة لاينظر إليه كصفقة تجارية عابرة بل هو اليوم ركيزة بنيوية لاستراتيجية البلدين حتى عام 2030 وما بعده.

 

تتجسد الشراكة الإستراتيجية الروسية – الهندية في عمق البنية التحتية التكنولوجية للمستقبل من خلال مشاريع تتطلب إلتزاماً استراتيجياً ونقل خبرات جوهري. في قطاع الطاقة النووية، يتعدى التعاون بناء المحطات ليشمل دمج دورة الوقود النووي وتوطين إنتاج المكونات، مما يدعم خطة الهند لبلوغ 100 غيغاواط بحلول عام 2047. هذا التوجه يؤسس لركيزة بنيوية مستدامة. بالمثل، في مجال الفضاء، يركز التنسيق بين “روسكوزموس” و (ISRO) على القدرات التأسيسية عبر التطوير المشترك لمحركات الصواريخ وتقديم الدعم لبرامج الفضاء المأهولة. هذه المبادرات تمثل استثماراً مباشراً في الهياكل العلمية والصناعية الأساسية، وتُشكل أساس التنمية التكنولوجية المنهجية والممتدة للبلدين لعقود.

 

في نفس السياق يُعد التعاون العسكري الهندي الروسي حجر الأساس للشراكة الاستراتيجية بين البلدين، ومن المرتقب أن تسعى موسكو ونيودلهي إلى بناء سلسلة إمداد دفاعية مستدامة ومحصنة ضد التقلبات الجيوسياسية، مما يضمن تدفق الإمدادات ويدعم استقلالية القرار الأمني للهند. وفي المقابل، تسعى الهند جاهدة لتنويع مصادر تسليحها وتقليل اعتمادها على أي مورد واحد، وهو ما يضيف بعدًا استراتيجيًا لمفاوضاتها الحالية. وقد عزز نجاح الدورة الثالثة والعشرين للقمة الروسية الهندية هذا التوجه، حيث فتح المجال واسعاً أمام تنفيذ حزمة من الصفقات الاستراتيجية، وفي مقدمتها ملف مقاتلات “سوخوي 57 إيي” التي تُعد الأهم لتحديث القدرات الجوية الهندية. كما يُتوقع أن يشمل التسريع مناقشات متقدمة حول إمداد نيودلهي بكتائب إضافية من منظومة “إس-400” للدفاع الجوي بعيد المدى، إلى جانب تعزيز الشراكة في مجال الصواريخ الباليستية وتوطين تكنولوجيا الصناعات الدفاعية الحساسة، مما يعزز قدرة الهند على الردع الاستراتيجي الإقليمي في ظل تصاعد المخاطر المرتبطة بالتمدد الجيوسياسي الصيني أو التنافس التقليدي مع الباكستان .

 

و على هذا الأساس يتجاوز التعاون الاستراتيجي بين موسكو ونيودلهي مفهوم التبادل التجاري ليصل إلى العمق الدفاعي والتكنولوجي، الذي يشكل صمام أمان لاستقرار جنوب آسيا و المحيط الهندي بتعقيداته الجيوسياسية. حيث يشهد هذا المسار خطوات واسعة نحو دمج القدرات الرادعة الهندية عبر الاستحواذ على تكنولوجيا متقدمة، وفي مقدمتها ملف مقاتلات “سوخوي 57 إيي” التي تمثل إضافة نوعية لقوة الجو فضائية الهندية. بالتوازي، يضمن تسريع إمداد نيودلهي بكتائب إضافية من منظومة “إس-400” للدفاع الجوي تعزيزاً حيوياً لشبكة الحماية الإقليمية بعيدة المدى. هذا التنسيق لا يقتصر على الصفقات العسكرية؛ بل يمتد إلى توطين تكنولوجيا الصناعات الدفاعية الحساسة ومواصلة الشراكة في قطاع الطاقة النووية السلمية و ملف غزو الفضاء. هذه الركائز التكنولوجية والدفاعية مجتمعة ترسخ بشكل واضح قوة الردع الهندية وتؤمن عاملاً أساسياً في صيانة التوازن الإقليمي في ظل الديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة والتنافس التقليدي في المنطقة.

 

و نتيجة لذلك فإن التموضع الاستراتيجي المتسارع بين موسكو ونيودلهي، والذي تُرجم إلى شراكة عميقة في الطاقة و التكنولوجيا المتقدمة والدفاع و غزو الفضاء، يُعيد تشكيل معادلة القوة العالمية بأبعادها المتعددة. هذا التقارب يبعث بإشارات واضحة إلى أن نظام الأقطاب المتعددة لم يعد نظرية سياسية تنادي بها الأوساط الأكاديمية و السياسية، بل أصبح واقعاً يتجسد عبر مشاريع ضخمة مثل ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) والتعاون في القطب الشمالي. على صعيد الأمن العالمي، يخلق هذا المحور ثقلاً جديداً يفرض توازناً جيوسياسياً في ظل التنافسات الكبرى، ويساهم بشكل غير مباشر في إعادة توزيع التركيز من بؤر الأزمات التقليدية. فبينما يرسخ هذا التحالف قوة الردع الهندية في المحيط الهندي وجنوب آسيا لمواجهة التمدد الصيني والتنافس الإقليمي، فإنه يوفر لروسيا مساحة استراتيجية للتحرك بعيداً عن ضغوط حلف شمال الأطلسي ، هذا التموضع الجديد يؤثر حتماً على ديناميكيات الصراعات الممتدة من الشرق الأوسط إلى بحر الصين الجنوبي، حيث تصبح مساحة المناورة الدبلوماسية والعسكرية أضيق أمام القوى التقليدية، مما يعزز من دور القوى الصاعدة الإقليمية في صياغة الحلول وتأمين سلاسل الإمداد العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى