مجتمع

المحج الملكي بالدار البيضاء: 35 سنة من التعثر بين وهم التنمية وإشكالية الحكامة

 

 

بقلم: عبدالرحمان العبداوي(*)

 

 

يعتبر مشروع المحج الملكي بالدار البيضاء أحد أكبر الأوراش الحضرية التي أثارت جدلا واسعا منذ الإعلان عنه في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، في سياق قرار بناء مسجد الحسن الثاني. فقد روج آنذاك أن المشروع سيشكل “شريان المدينة” الجديد، وسيمكن من ربط المسجد العملاق بقلب العاصمة الاقتصادية، ومنح الدار البيضاء واجهة حضرية تليق بمكانتها. غير أن الواقع بعد 35 سنة يؤكد أن المحج الملكي لم يكن سوى وعد معلق، تحول إلى أكذوبة عمرانية تجسد فشل السياسات العمومية في إنجاز المشاريع المهيكلة.

 

المبحث الأول: تعثر مشروع المحج الملكي بين سوء التدبير وغياب الحكامة

 

منذ الإعلان عن المشروع، كان الأمل معقودا على إحداث تحول عمراني واقتصادي كبير يليق بموقعه الاستراتيجي وقيمته الرمزية. فقد كان من المفترض أن يشكل متنفسا عمرانيا للمدينة وواجهة حضارية ترقى بتطلعات ساكنتها. غير أن ما حدث هو العكس تماما، إذ تحول المشروع إلى ورش مهجور تجسدت فيه معالم الارتباك والفشل في التدبير، مما جعله علامة فارقة على عجز الحكامة المحلية عن الوفاء بوعودها.

 

الفرع الأول: تراكمات الفشل والارتباك المؤسسي

 

ارتبط المشروع منذ البداية بترحيل سكان المدينة القديمة (10 آلاف أسرة) نحو “مدينة النسيم” التي قدمت آنذاك كمدينة نموذجية ستفتح أبوابها مع مطلع الألفية الثالثة. لكن بدل أن تتحول النسيم إلى فضاء حضري متكامل، أضحت مدينة أشباح تكشف أن الهدف لم يكن خدمة المصلحة العامة بقدر ما ارتبط بمضاربات عقارية وتجارية.

 

وتلخص الوقائع التاريخية المسار على النحو التالي:(*)

 

1991: إنشاء شركة بنكية لتدبير المشروع.

1994: تأسيس شركة “صوناداك” وتفويض الأراضي للوكالة الحضرية.

1998: بداية شراء العقارات دون أن يتجاوز الإنجاز نسبة 20%.

2002–2005: ضخ 50 مليار سنتيم دون أثر ملموس.

2008: دخول صندوق الإيداع والتدبير دون نتيجة.

2013–2025: استمرار النزيف المالي لتمويل أجور موظفي “صوناداك” بينما الورش مجمد.

هذه المعطيات تؤكد أن المشروع لم يكن ضحية ضعف التمويل، بل أساسا ضحية تضارب الصلاحيات وغياب المحاسبة والشفافية.

 

الفرع الثاني: السياق الراهن ومحاولة إحياء المشروع

 

مع اقتراب احتضان المغرب لكأس العالم 2030، عادت الدولة لإحياء ورش المحج الملكي باعتباره مشروعا استعجاليا يهدف لإعادة الروح لقلب الدار البيضاء. وقد جاءت دورة استثنائية لمجلس المدينة بطلب من الوالي، استنادا إلى المادة 36 من القانون التنظيمي للجماعات.

لكن الإحياء لا يكفي أن يكون شعارا، بل يتطلب معالجة جذرية للتراكمات السابقة وإرساء قواعد صلبة للحكامة. فالمشكل لم يكن يوما في غياب المخططات، بل في القدرة على التنفيذ وربط المسؤولية بالمحاسبة.

 

المبحث الثاني: البعد الدستوري وإشكالية اللغة الرسمية

 

رغم أن النقاش حول تعثر مشروع المحج الملكي ارتبط أساسا بإشكالات الحكامة والتمويل، إلا أن هناك بعدا دستوريا لا يقل خطورة ظل حاضرا في خلفية هذا الورش، ويتعلق بمدى احترام اللغة الرسمية للمملكة في الوثائق والاتفاقيات المرتبطة به. فالدستور المغربي لسنة 2011 حسم في رسمية العربية والأمازيغية، غير أن الممارسة العملية تكشف عن هيمنة اللغة الفرنسية على جل المراسلات ودفاتر التحملات ومشروع اتفاقية الشراكة موضوع الدورة الاستثنائية. وهو ما يطرح أسئلة محرجة حول شرعية هذه الإجراءات ومدى انسجامها مع روح الدستور.

 

الفرع الأول: خرق الدستور عبر هيمنة اللغة الفرنسية

 

من أبرز المعضلات المرافقة لهذا الورش اعتماد اللغة الفرنسية في الوثائق الرسمية ودفاتر التحملات. وهذا الأمر يتعارض بشكل صارخ مع الفصل الخامس من دستور 2011 الذي نص على رسمية العربية والأمازيغية.

اعتماد لغة أجنبية في وثائق عمومية من هذا الحجم ليس مجرد تفصيل شكلي، بل خرق للدستور وإقصاء للمجالس المنتخبة من ممارسة أدوارها الرقابية. فكيف يمكن لمنتخبين لا يتقنون الفرنسية أن يناقشوا مضامين اتفاقيات مصيرية تهم مدينتهم؟

 

الفرع الثاني: احترام اللغة الرسمية مدخل للسيادة والشفافية

 

إن اعتماد اللغتين الرسميتين للمملكة، العربية والأمازيغية، ليس مجرد إجراء شكلي أو مسألة تقنية مرتبطة بصياغة الوثائق، بل هو خيار سيادي ومقتضى دستوري يضمن مشروعية القرارات الإدارية والمالية. فاللغة الرسمية هي وعاء السيادة، وأي انحراف عنها يضعف شرعية المؤسسات ويكرس التبعية الثقافية والقانونية.

القضاء المغربي(**) سبق أن أصدر عدة أحكام تؤكد إلزامية تحرير الوثائق الإدارية بالعربية، وهو ما يبين أن الإخلال بهذا المقتضى لا يعد مجرد خطأ إجرائي، بل مساسا مباشرا بالقانون. كما أن غياب اللغة الرسمية في وثائق المشاريع الكبرى يحول دون إشراك المنتخبين والمواطنين في مناقشة السياسات العمومية، لاسيما أولئك الذين لا يتقنون الفرنسية، وهو ما يخلق هوة بين القرارات المتخذة والقاعدة الاجتماعية المفترض أن تستفيد منها.

من هنا، فإن احترام اللغة الرسمية في جميع مراحل مشروع المحج الملكي يشكل شرطا لضمان الشفافية، وتكريس ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتفادي تحويل المشروع إلى مجرد “صفقات تقنية مغلقة” لا تخضع للنقاش العمومي ولا للرقابة الديمقراطية.

 

توصيات عملية للخروج من المأزق:

 

1- إحداث لجنة وطنية خاصة بمواكبة ورش المحج الملكي، تضم وزارة الداخلية ووزارة إعداد التراب الوطني ومجلس المدينة.

2- نشر تقرير شامل لتصفية ملفات الماضي وتحديد المسؤوليات.

3- إلزامية تحرير جميع الوثائق بالعربية والأمازيغية لضمان احترام الدستور.

4- تفعيل المحاسبة عبر المجلس الأعلى للحسابات والنيابة العامة ضد أي إخلال.

5- ربط المشروع برؤية حضرية شاملة تمتد لتأهيل أحياء النسيم والمدينة القديمة.

6- إشراك الساكنة والمجتمع المدني في التتبع والتقييم.

 

إن المحج الملكي ليس مجرد مشروع عمراني متعثر، بل مرآة لإخفاقات الحكامة الترابية بالمغرب خلال العقود الأخيرة. واليوم، مع عودة النقاش حوله استعدادا لمونديال 2030، لن يقاس النجاح بسرعة الإنجاز فقط، بل بقدرة الدولة والجماعات على تصحيح اختلالات الماضي، احترام الدستور، وتكريس التنمية الحضرية المستدامة.

 

(*) ملحوظة 1 : بخصوص السياق التاريخي للمشروع، تم الاعتماد على تدوينة للدكتور عبد الرحيم أريري، مدير موقع “أنفاس”، وذلك للأمانة العلمية.

(**) ملحوظة 2 : للمزيد من المعلومات انظر الرابط:

https://www.facebook.com/share/p/1EWUB5PBeu/

 

[email protected]

☎️ 0743507376.

**********

 

عن كاتب المقال:(*)

 

-مستشار جماعي ومقرر عام سابق للميزانية

-حاصل على شهادة الاهلية لمزاولة مهنة المحاماة

-شغل سابقا مهمة مقتصد بمركز الطب النفسي بالمستشفى الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء

-مفتش سابقا بالمكتب الوطني للبريد والمواصلات (شركة اتصالات المغرب).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى