مؤتمر ضحايا الإرهاب : الرباط عاصمة إفريقية للأمن الإنساني و الديبلوماسة الأمنية .

بقلم : البراق شادي عبد السلام
” عودة المغرب إلى أسرته المؤسسية ( الإتحاد الإفريقي )، ستمكنه من إسماع صوت القارة، في المحافل الدولية. وستتيح له مواصلة وتعزيز انخراطه، من أجل إيجاد حلول موضوعية لها تراعي مصالح الشعوب الإفريقية وخصوصياتها, وفي هذا الصدد، فإننا حريصون على مواصلة المساهمة في توطيد الأمن والاستقرار بمختلف المناطق، التي تعرف التوتر والحروب، والعمل على حل الخلافات بالطرق السلمية. كما أن هذه العودة، ستمكن المغرب من تقوية انخراطه في الجهود القارية لمحاربة التطرف والإرهاب، الذي يرهن مستقبل إفريقيا. وإننا ملتزمون بتقاسم تجربتنا المتميزة، المشهود بها عالميا، مع إخواننا الأفارقة سواء في مجال التعاون الأمني أو على مستوى محاربة التطرف.” خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة المسيرة الخضراء 6 نوفمبر, 2016 بدكار .
و من هذا المنطلق أعلن المغرب، ممثلاً بوزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، السيد ناصر بوريطة، خلال الاجتماع الوزاري لعام 2025 لمجموعة أصدقاء ضحايا الإرهاب ، الذي نُظِّم في نيويورك يوم 24 شتتبر الماضي من قبل مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب ، عن مبادرة إفريقية رائدة بتنظيم أول مؤتمر حول ضحايا الإرهاب في إفريقيا بمدينة الرباط يومي 2 و3 ديسمبر 2025 ، وذلك بالتعاون الوثيق مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب.حيث تأتي هذه الخطوة في ظل قناعة راسخة بأن إفريقيا تدفع الثمن الأبهظ للإرهاب، حيث تُسجَّل نحو 60% من مجموع ضحايا الإرهاب عالمياً على أراضيها .
هذا المؤتمر، الذي وصفه السيد ناصر بوريطة بأنه “منعطف في المقاربة الدولية لدعم الضحايا في القارة”، يهدف إلى إثارة انتباه المجتمع الدولي إلى الوضع المأساوي للضحايا الأفارقة، مع التركيز على أهمية تحويل التضامن الدولي إلى مبادرات عملية وملموسة تخدم هذه الفئة.
إنخراط المملكة المغربية الجدي و المسؤول في مكافحة الإرهاب على المستوى الإفريقي يندرج في إطار دينامية فاعلة و مستدامة تروم تعزيز حضور المملكة في الجهود العالمية و القارية لمكافحة الإرهاب و تداعياته q و الإجتماعية ، حيث أن الرباط قد إحتضنت العديد من الفعاليات و المؤتمرات الدولية المرتبطة بموضوع الإرهاب و إفريقيا ، فقد نظمت وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، مؤتمراً حول مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن البحري على السواحل الإفريقية الأطلسية في الرباط، خلال الفترة من 9 إلى 10 يناير 2025 و شارك في المؤتمر أكثر من 50 مسؤولًا وخبيرًا في مجال مكافحة الإرهاب من الدول الأعضاء في مبادرة مسلسل الرباط للدول الأطلسية، بالإضافة إلى ممثلين عن المنظمات الإقليمية والدولية، بهدف مناقشة السبل الأكثر فاعلية لمكافحة هذه الظاهرة في الواحهة الإفريقية للمحيط الأطلسي .
بالعودة للمؤتمر الإفريقي الأول حول ضحايا الإرهاب الذي ستحتضنه العاصمة الرباط و الذي يندرج في إطار التفاعل الإيجابي للمملكة المغربية مع البرنامج الأممي لدعم ضحايا الإرهاب، التابع لمركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب (UNCCT)، و الذي يرتكز على هدف استراتيجي محوري يتمثل في إظهار التضامن مع الضحايا والناجين، ورفع مستوى الوعي بحقوقهم، وضمان حمايتها ودعم احتياجاتهم ، حيث يستمد البرنامج ولايته من استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب وقرارات الجمعية العامة ذات الصلة، خاصة القرارين اللذين أسسا الإطار المعياري لعمله، ومن أبرزها القرار الذي استحدث اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الإرهاب وإجلالهم (21 غشت)، والقرار الذي دعا إلى تعزيز التعاون الدولي في هذا المجال، إضافة أنه لا يقتصر عمل البرنامج على الدعم المباشر، بل يشمل بناء قدرات الدول الأعضاء ومنظمات المجتمع المدني لتقديم أفضل أشكال الرعاية للضحايا.
لتحقيق هذه الأهداف، يقوم البرنامج بتنفيذ حزمة من الأنشطة الرئيسية؛ تشمل تشغيل بوابة إلكترونية لتوفير الموارد والمعلومات العملية، وتقديم الدعم للدول الأعضاء، بما في ذلك مجموعة أصدقاء ضحايا الإرهاب. ويتمثل جانب حيوي من عمله في الاحتفال باليوم الدولي عبر تنظيم فعاليات ومعارض تُبرز أصوات الضحايا وتجاربهم ، كما يركز البرنامج على بناء القدرات والمساعدة التقنية من خلال إصدار الكتيبات التدريبية وتوفير الدعم للمنظمات غير الحكومية. حيث يتحول في نهاية المطاف كجهة محورية للتنسيق والدعوة، ضامناً وضع قضايا الضحايا في صميم جهود الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب.
في نفس السياق يؤكد تنظيم المغرب لهذا المؤتمر على ريادته الإقليمية ودوره كـفاعل أمني وإنساني محوري في إفريقيا ، فهذه المبادرة هي تأكيد على الوعي العميق لذا صانع القرار السياسي في الرباط بالوضع المأساوي للضحايا الأفارقة، خاصة مع استمرار نشاط الجماعات الإرهابية مثل حركة الشباب في الشرق وتنظيم نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) و داعش الصحراء الكبرى في منطقة الساحل و ميليشيا البوليساريو الإرهابية في تندوف ، حيث تسعى المملكة لتقديم بُعد إنساني وعملي لمكافحة الإرهاب، مشددة على ضرورة تحويل التركيز من الجانب الأمني الصرف إلى رعاية ودعم الناجين و المحتجزين المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الإرهابية . كما أن دعم مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب (UNOCT) لهذا المؤتمر يعكس ثقة دولية في قدرة المغرب على توفير منصة ذات مصداقية لمعالجة هذه القضية الحساسة ضمن إطار التعاون جنوب-جنوب و أيضا لترسيخ الإدراك الجماعي بالأمن الإنساني، مع التركيز على الأسباب الجذرية للإرهاب المتمثلة في ضعف الحوكمة الرشيدة ، فتنظيم هذا المؤتمر الدولي في الرباط هو من زاوية أخرى تأكيد على أن المملكة المغربية تحولت إلى مركز إقليمي محوري لمكافحة الإرهاب، وذلك نتيجة الرؤية الملكية المستنيرة والمقاربة المغربية الشاملة لمكافحة الإرهاب التي تعبر عنها الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الارهاب التي تسعى قوات إنفاذ القانون بمختلف أفرعها و بشكل خاص المكتب المركزي للأبحاث القضائية و المديرية العامة للأمن الوطني و المديرية العامة لحماية التراب الوطني و جهاز الدرك الملكي على تنزيلها بشكل دقيق وسليم و رصين وفق حكامة تلتزم بالمقتضيات الدستورية و الحقوقية ، مما يعزز من مكانة الرباط كعاصمة أمنية للقارة .
ما يميز هذا المؤتمر عن المبادرات الدولية السابقة هو تركيزه النوعي على القارة الإفريقية وتضمينه لآلية “الإنصات المباشر لشهادات الضحايا” و “تحديد احتياجاتهم الأولوية”، حيث هذا النهج التشاركي يضمن أن تكون الاستراتيجيات والدعم المقدم ملموسًا ومناسبًا للواقع الإفريقي، متجاوزًا تحديات التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي تستغله الجماعات المتطرفة ،بالإضافة إلى ذلك، يهدف المؤتمر إلى تقاسم الممارسات الفضلى في مجالي الدعم النفسي والاجتماعي وإعادة الإدماج المجتمعي ، مما يجعله منصة عملية لتطوير آليات جماعية مساعدة ملموسة لمواجهة البيئة المواتية للتطرف وتعزيز التعافي والصمود في المجتمعات المتضررة.
و على هذا الأساس يمكن لمؤتمر الرباط أن يلعب دورًا فعالًا في تعزيز التعاون الإقليمي من خلال توفير منصة موحدة للدول الإفريقية المتضررة من الإرهاب، مما يسهل بلورة استراتيجيات قارية مشتركة لدعم الضحايا وإعادة إدماجهم. حيث أن توحيد المواقف والجهود يعزز من قدرة القارة على المطالبة بـتعبئة الموارد الدولية اللازمة لتوفير الرعاية الشاملة للضحايا، ويسهم في تبادل الخبرات والمعلومات حول سبل التعافي والصمود والعدالة التعويضية بين الدول الإفريقية، خاصة في المناطق التي تعاني من هشاشة الدولة وتواجد الإرهاب العابر للحدود، والذي يتخذ أشكالاً مختلفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى – داعش الصحراء (ISGS).
أما على الصعيد الدولي، فمن شأن المؤتمر أن يلفت إنتباه المجتمع الدولي بشكل مركز إلى المعاناة الإفريقية مع تداعيات الإرهاب الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية، مما يعزز التعاون مع المنظمات الدولية والدول الشريكة لدعم جهود مكافحة التطرف العنيف وتطبيق استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب عبر آلياتها الوطنية، فهذا الإشراك المباشر للضحايا يضفي مصداقية إنسانية أكبر على جهود مكافحة الإرهاب ويساهم في تعزيز الشرعية للبرامج الدولية الهادفة إلى دعم الاستقرار وسيادة القانون في المنطقة، بما في ذلك جهود مكافحة تمويل الإرهاب وإصلاح القطاع الأمني لضمان قدرة الدول على تأمين الحدود ومكافحة التجنيد والاستقطاب.
في هذا السياق المغرب كدولة رائدة أمنيا و إستخباراتيا من خلال دبلوماسيته العامة و الأمنية و القضائية والدينية و التزنيل الدقيق للمقاربة المغربية الشاملة لمكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، يمكن له أن يستثمر في خبرته الكبيرة لمساعدة الضحايا على التحول إلى قوة مجتمعية داعمة للسلم ،فمن خلال إستخدام كفاءاته أجهزته المتفردة عالميا في التحليل الأمني و الإستخباراتي ومكافحة التطرف العنيف، يمكن للمغرب المساعدة في وضع برامج دعم إقليمية و قارية تركز على المقاومة الفكرية للسرديات الإرهابية المتشددة، بالإضافة إلى المساعدة في صياغة أطر للعدالة التعويضية الشاملة التي لا تقتصر على الدعم المادي بل تشمل الدعم النفسي والاجتماعي، والتمكين الاقتصادي للضحايا لمواجهة خطر التجنيد والاستقطاب الذي تمارسه التنظيمات ، حيث تلعب الدبلوماسية الأمنية المغربية بقيادة المدير العام للأمن الوطني و حماية التراب الوطني السبد عبد اللطيف حموشي دورًا حاسمًا في تبادل الخبرات التكتيكية والاستراتيجية مع الشركاء الأفارقة و غير الأفارقة لضمان أن تكون هذه البرامج حصنا منيعا للضحايا في مواجهة الفكر المتطرف وإعادة التجنيد، مما يحولهم إلى عناصر محصّنة وفاعلة مجتمعياً بدلاً من كونهم هدفاً سهلاً للتنظيمات الإرهابية.
كما أن الروابط الروحية والتاريخية العميقة والمتميزة بين العرش العلوي المجيد والشعوب الإفريقية المسلمة هي عنصر فاعل لتوجيه مؤسسة إمارة المؤمنين لأجل تعزيز النموذج الإسلامي الوسطي المستنير في مواجهة الفكر المتطرف المتشدد ، حيث ان هذه الروابط الروحية تمنح المغرب نفوذًا هادئًا في العمق الإفريقي يسمح له بتوجيه المؤسسات الدينية و الدعوية للمساهمة في الدعم المعنوي والاجتماعي للضحايا، وتعزيز الخطاب البديل لمواجهة الدعاية الإرهابية في الفضاء الإلكتروني.
و على هذا الأساس تشكل المقاربة المغربية في أفريقيا عقيدة متكاملة تستهدف جذور الإرهاب عبر بناء منظومة إقتصادية إقليمية ذات توجه قاري واضح ببعد تكاملي إندماجي متميز ،حيث تُعد التنمية الاقتصادية والاندماج الإقليمي الركيزة الجوهرية في استراتيجية المغرب لتجفيف منابع الإرهاب، عبر تبني الشراكة الندية جنوب-جنوب كتحول نموذجي من منطق المساعدة إلى منطق خلق القيمة المشتركة، مرتكزة بذلك على دفتر تحملات تنموي طموح تقدمه الرباط لشركائها. فالمبادرات المغربية تستهدف بشكل مباشر تقويض بيئة الهشاشة التي ينمو فيها التطرف، من خلال استثمارات استراتيجية، أبرزها الفلاحة لضمان الأمن الغذائي الأفريقي عبر مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط ، حيث تعمل المملكة على خلق شرايين جيواستراتيجية ترفع من قدرة القارة على الصمود، مثل مشروع الربط الكهربائي الإقليمي و مشروع أنبوب الغاز الإفريقي – الأطلسي، الذي يُعد مشروعاً هيكلياً يخدم أكثر من 400 مليون أفريقي في دول غرب أفريقيا وتجمع الساحل، ويرتبط مباشرة بمسلسل الرباط للدول الإفريقية الأطلسية. حيث تتجسد أوج هذه الرؤية في المبادرة الملكية لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي (كوريدور محمد السادس للربط القاري – الأطلسي – تشاد – موانئ الصحراء المغربية ) ، حيث أن هذه المبادرة الإقليمية الرائدة للاندماج، تحول الصحراء المغربية إلى جسر لوجستي وتنموي عملاق يخدم مصالح شعوب الدول الإفريقية الحبيسة، مما يعزز التكامل الاقتصادي ويسهم بفاعلية في القضاء على التهميش الاقتصادي الذي يشكل وقوداً للجماعات المتطرفة.
يمثل مؤتمر الرباط الإفريقي الأول حول ضحايا الإرهاب تتويجًا نوعيًا وبلورة عملية لـ “الرؤية الملكية المستنيرة والمقاربة المغربية الشاملة” التي يتبناها المغرب في عمقه الإفريقي. فالعودة الاستراتيجية للمملكة إلى أسرتها المؤسسية، الاتحاد الإفريقي، لا يمكن النظر إليها كاستعادة مقعد و فقط ، بل هي انخراط جدي ومسؤول كرّس مكانة الرباط كـ “مركز إقليمي محوري لمكافحة الإرهاب والأمن الإنساني في القارة ” كما ان المشاريع الهيكلية العملاقة، وعلى رأسها المبادرة الملكية لتمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، ومشروع أنبوب الغاز الإفريقي – الأطلسي، تجسد عقيدة متكاملة للتعاون جنوب-جنوب، تحوّل الهشاشة والتهميش إلى قوة صمود وازدهار. ومن هذا المنطلق، فإن مؤتمر الرباط لا يمثل نهاية مسار، بل هو منعطف استراتيجي يُرسّخ مصداقية المغرب دوليًا وإقليميًا كـقاطرة للعمل القاري الموحد، وكمنصة موثوقة لتعزيز الأمن والاستقرار والعدالة التعويضية، بما يضمن بناء مستقبل آمن ومزدهر للشعوب الإفريقية كافة و يكرس مكانة الرباط كعاصمة الديبلوماسية الأمنية للقارة الإفريقية .