حين يلتقي الإبداع السياسي بالريادة المدنية: نحو جيل جديد من الأحزاب المُتَوَهِّجَة، سوس ماسة نموذجا

بقلم : الدكتور جمال العزيز
تَمُرُّ الحياة السياسية المغربية اليوم بمرحلة دقيقة تتسم بارتفاع المطالب الإجتماعية واتساع دائرة الوعي لدى المواطنين، في ظل واقع يُعيد رسم علاقة المجتمع بالأحزاب. وفي قلب هذا التحوُّل، يصبح ضروريا التفكير في أساليب مبتكرة تعيد للأحزاب السياسية توهجها وتوازنها، ليس بوصفها آلات انتخابية تظهر فقط في المواسم، بل باعتبارها مؤسسات فاعلة ومؤثرة تُشَكل واحدة من أهم أدوات إنتاج الأفكار وصناعة المستقبل. ويبدو أن جهة سوس ماسة، بحيويتها وديناميتها وتركيبتها الإجتماعية الغنية، تقدم النموذج الأمثل لقراءة هذا التحوُّل واستشراف آفاق التجديد.
إن إعادة هندسة العمل الحزبي اليوم تتطلب وضع آليات تمنع الخلط بين السلطة الشخصية والمسؤولية التنظيمية، وتعيد للمناضلين دورهم الفعلي في صناعة القرار والمساهمة في المشاريع المجتمعية، بعيدا عن الإمتيازات والتفرد بالقرار.
لطالما اعتمدالبعض على مفهوم “Think Tanks” لتوليد الأفكار وصياغة السياسات، لكن الواقع أظهر أن هذه الطريقة أصبحت مستهلَكة وغير قادرة على مواكبة الدينامية الميدانية والإجتماعية الحديثة، فهي غالبا ما تبقى محصورة في مكاتب بعيدة عن الواقع المحلي وتفتقر إلى التفاعل المباشر . لذلك، أصبح من الضروري استحداث أدوات أكثر ابتكارا ومرونة، ترتكز على التجربة الميدانية والتكنولوجيا الرقمية، مثل:
وحدات الرصد الميداني المرنة:
فرق صغيرة داخل الفروع الحزبية تقوم برصد التحولات الإجتماعية والإقتصادية في الجماعات الترابية، وإعداد تقارير دقيقة تساعد على اتخاذ قرارات واقعية ومستندة إلى المعطيات.
منصات المشاركة الرقمية:
فضاءات تفاعلية تسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم واقتراح حلول عملية، ومتابعة البرامج، بما يُحوِّل التواصل الحزبي من شكل “من فوق” إلى مشاركة فعلية تُرَسِّخ الثقة.
ورشات التعاقد الإجتماعي المحلي:
لقاءات تجمع المنتخبين، الفاعلين المدنيين، الإقتصاديين والمواطنين لصياغة التزامات قابلة للتنفيذ خلال فترة زمنية محددة، بما يعزز المسؤولية والإلتزام بالمشاريع.
مختبرات الإبتكار الترابي:
فضاءات عمل مشتركة تجمع المنتخبين والخبراء والمواطنين لابتكار حلول محلية مرتبطة مباشرة بالواقع الإجتماعي والإقتصادي للجهة.
خلايا التحليل الإستباقي:
وحدات تعتمد البيانات والذكاء الإصطناعي لرصد التحولات المجتمعية واستشراف حاجيات المواطنين قبل ظهور الأزمات، بما يُمكِّن الأحزاب من التفاعل الإستراتيجي السريع والمتبصِّر.
كل هذه الأدوات تمنح الحزب قدرة جديدة على التجدد، وعلى بناء نموذج عمل سياسي معاصر ينسجم مع روح العصر، ويجعل منه قوة ابتكارية حقيقية، بعيدا عن التعالي والكذب والحروب الوهمية والإمتيازات الموروثة لدى بعض المنتخبين الذين يجمعون بين المسؤولية الحزبية والمناصب المنتخبة.
ولعل أبرز رافعة لهذا التحول هو المجتمع المدني الريادي الذي تتميز به جهة سوس ماسة. فالنسيج الجمعوي بالمنطقة، المتنوع والمتقدم في مجالات التنمية والإبتكار الإجتماعي وريادة الأعمال، لا ينبغي النظر إليه كمنافس للعمل الحزبي، بل كحليف استراتيجي قادر على إغناء الفكر السياسي وتزويده بمعرفة ميدانية عميقة.
التكامل بين الأحزاب و المجتمع المدني الريادي هو ما يصنع اليوم الفارق بين حزب تقليدي جامد وحزب متجدد يستمد قوته من القرب والتفاعل والإبداع، ويترك خلفه ممارسات الوزيعة والسيطرة على المناضلين والمناصب.
إن جهة سوس ماسة مؤهلة لتكون مختبرا وطنيا لهذا التحول لعدة اعتبارات: فهي منطقة تعرف دينامية اقتصادية تستقطب الإستثمار والشباب، وتتميز بتنوع مجالي يتيح فهم المغرب العميق في أبعاده الحضرية والقروية، كما تحتضن مبادرات مدنية ذات أثر واضح، إضافة إلى وجود طاقات سياسية محلية قادرة على حمل مشروع تجديدي ينسجم مع التحولات الوطنية الكبرى. كل هذه العوامل تجعل الجهة واحدة من أنسب الفضاءات لإطلاق تجربة حزبية مبتكرة يمكن أن تصبح نموذجا يحتذى به على المستوى الوطني.
إن استعادة التوهج الحزبي لا يعني تلميع الواجهة أو تحسين الخطاب، بل يعني إعادة بناء علاقة جديدة بين الأحزاب والمجتمع، علاقة تقوم على الإنصات العميق وتقديم الحلول والإبتكار في التواصل وتحمل المسؤولية، مع القطع مع الكذب، التمييز بين المناضلين، واستمرار الإمتيازات الشخصية لدى بعض المنتخبين. المواطن اليوم يريد حزبا يفكر بمنطق المستقبل، ويتواصل بمنطق الشفافية، ويشتغل بمنطق تقديم المصلحة العامة على الحسابات الضيقة. يريد حزبا يُحوِّل وعوده إلى مشاريع، ومشاريعه إلى واقع، وواقعه إلى ثقة.
لقد انتهى زمن الشعارات الفضفاضة ،وانتهى زمن القيادات المنغلقة؛ وانتهى زمن الصور البروتوكولية؛ وبدأ زمن القيادة الجماعية، وزمن الفروع المحلية الفعالة؛ انتهى زمن السياسة الموسمية، وبدأ زمن السياسة اليومية التي تتابع التفاصيل وتحترم ذكاء المواطن.
إن بناء جيل جديد من الأحزاب المتوهجة يَمُرُّ عبر واقعية في التشخيص، وجرأة في التغيير، وإبداع في التنظيم، وانفتاح على المجتمع المدني، والتزام أخلاقي في الممارسة. وفي سوس ماسة تحديدا، تبدو الفرصة التاريخية مواتية لخلق هذا النموذج السياسي الجديد، فقط تحتاج الأحزاب إلى إرادة حقيقية، ورؤية واضحة، وجرأة في تحويل العمل الحزبي من هياكل متعبة إلى مؤسسات مُنْتِجَة للأفكار والقيم والسياسات العمومية، بعيدا عن الوزيعة والإمتيازات القديمة لدى البعض.
وفي النهاية، يبقى التوجيه الملكي السامي بمثابة المفتاح للإستشراف، فهو يوفر للحياة السياسية إطارا واضحا للإبتكار والشفافية والمسؤولية، ويؤكد على أهمية التواصل مع المواطنين، وتقوية المجتمع المدني، وتحقيق التنمية المتوازنة. هذا التوجه السامي يشكل بوصلتنا في التجديد ، ويجعل من جهة سوس ماسة نموذجا يحتذى به في دمج الإبداع السياسي مع الريادة المدنية، لبناء مغرب أكثر عدلا، دينامية وابتكارا.




