محور الرباط – مدريد : تحالف استراتيجي مستدام و تكامل بيني راسخ

بقلم : البراق شادي عبد السلام
العلاقات الثنائية بين المملكة المغربية والمملكة الإسبانية تتجاوز حدود الجوار الجغرافي المباشر، لتشكل روابط حضارية متجذرة في التاريخ الإنساني المشترك والتلاقح المستمر عبر ضفتي المتوسط. وبفضل الإدراك المشترك لأهمية هذه الروابط في بناء مستقبل تنموي مستدام، حيث تحولت هذه العلاقات إلى شراكة استراتيجية محورية بين قوتين إقليميتين فاعلتين. فالمغرب يمثل بوابة الاستقرار لشمال غرب إفريقيا وشريكاً رئيسياً لأوروبا، بينما تمثل إسبانيا حجر الزاوية للمنظومة الأوروبية باتجاه الجنوب. وفي ظل التقلبات الجيوسياسية المتسارعة وتعدد المخاطر المهددة للأمن، استلزمت الإرادة المشتركة بناء هذه الشراكة على أسس صلبة من الثقة المتبادلة والوضوح، مما يجعل من محور الرباط-مدريد نموذجاً حيوياً للتعاون، ليس فقط كونه الشريان الاقتصادي الأول للمغرب، بل لكونه الركيزة الأساسية لترسيخ الأمن والاستقرار في المجال الأورومتوسطي والأطلسي المشترك.
ومن هذا المنطلق، تُعقد
الدورة الثالثة عشر للجنة المشتركة العليا المغربية الإسبانية أو الإجتماع الرفيع المستوى المغربي الإسباني بمدريد لتكون الآلية الحاكمة والمجسد المؤسسي لهذه الشراكة المحورية. فهذه اللجنة تمثل اليوم إطاراً استراتيجياً لتعميق الحوار الاستراتيجي والتشاور السياسي المنتظم، بهدف هندسة وتوجيه مسارات التعاون الثنائي نحو قطاعات ذات قيمة مضافة حيوية، تشمل الأمن ومكافحة الجريمة المنظمة، وإدارة ملف الهجرة، والطاقات المتجددة، والتبادل التجاري والاستثماري، وملف تنظيم كأس العالم. كما أن دورها يتجاوز الأجندة الثنائية ليشمل تنسيق وتوحيد المواقف والرؤى إزاء القضايا الإقليمية والدولية، مما يؤكد على الدور المزدوج لهذا المحور كجسر حيوي للاستقرار والتنمية بين أوروبا والقارة الإفريقية. حيث تؤكد اجتماعات هذه اللجنة على أن العلاقات الثنائية قد دخلت حقبة جديدة من التكامل البيني الاستراتيجي، مما يضعها في صميم جهود ضمان الأمن البشري والتنمية المستدامة في فضائهما المشترك.
وفي سياق هذه الدورة الاستراتيجية، تكتسب مشاركة المملكة المغربية زخماً إضافياً، خاصة في ظل التداعيات الإيجابية للقرار الأممي رقم 2797 الذي يعزز من الموقف المغربي. وتأتي هذه الاجتماعات لتُرسخ بشكل أكبر الموقف الإسباني الوازن والداعم لمبادرة الحكم الذاتي، باعتبارها الحل الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لإنهاء النزاع المفتعل حول الأقاليم الجنوبية للمملكة. إن هذا الدعم الإسباني يمثل تحولاً نوعياً في بنية الشراكة الثنائية، حيث يرفع من مستوى التنسيق السياسي إلى مستوى شراكة الرؤى حول قضايا السيادة الوطنية والأمن الإقليمي، مما يضمن استدامة هذا المحور كقوة دفع للاستقرار والتنمية المشتركة.
وعلى هذا الأساس، وفي امتدادٍ للمسار الذي رسمته اللجنة المشتركة العليا، توجت هذه الاجتماعات بتحويل الحوار السياسي إلى خارطة طريق اقتصادية عملية عبر إنعقاد “المنتدى الاقتصادي المغربي الإسباني” يوم أمس. وقد شكّل هذا المنتدى الإطار التنفيذي العملي لتفعيل التزامات الشراكة الاستراتيجية، حيث ركّز على إطلاق جيل جديد من المشاريع الاستثمارية المشتركة، بهدف مضاعفة تدفق الاستثمارات الإسبانية نحو المغرب، باعتباره قاعدة إنتاج وتصدير حيوية نحو الأسواق الإفريقية والأوروبية. وتم ذلك بالتركيز النوعي على القطاعات ذات الأولوية الاستراتيجية، وفي مقدمتها مشاريع الطاقات المتجددة (خاصة في مجال الهيدروجين الأخضر الضخم)، وتطوير البنية التحتية اللوجستية والربط البيني استعداداً لملف مونديال 2030 المشترك، فضلاً عن تعزيز سلاسل الإمداد في الصناعات الغذائية. كما تم التوقيع على حزمة من الاتفاقيات التي تُشرك القطاع الخاص في البلدين بشكل مباشر، ليكون المحرك الأساسي لـ خلق القيمة المضافة الإقليمية وتوليد فرص العمل المستدامة. بهدف تعزيز التكامل الاقتصادي البيني، وتحويل الجوار الجغرافي إلى ميزة تنافسية مشتركة، مما يضمن ترجمة القرار السياسي والدعم الإسباني لمغربية الصحراء إلى مكاسب اقتصادية ملموسة تخدم الأمن البشري والرخاء المشترك.
وفي سياق متصل، تحضر المملكة المغربية في هذا الاجتماع لتقديم رؤيتها وتصورها للأمن والاستقرار الإقليمي والقاري، باعتبارها صوتاً قوياً للجنوب العالمي. حيث تبحث الرباط بشكل مسؤول وجدي الإشكاليات التنموية والأمنية والمناخية التي تعاني منها شعوب المنطقة، من خلال مناقشة المبادرات التنموية المغربية في إفريقيا التي يمكن اعتبارها دفتر تحملات إقليمي تقدمه العاصمة لكافة العواصم الإقليمية، وبشكل خاص مدريد، من أجل الانخراط في جهود التنمية بالقارة. وتُشكّل هذه المبادرات أرضية صلبة لتطوير الجهود التنموية في القارة، حيث تُظهر جدية والتزام وإرادة المملكة في خدمة القضايا الأفريقية-الأوروبية من منطلق تنموي تضامني صادق.
ويتجسد هذا الالتزام عبر مشاريع هيكلية عملاقة، أبرزها أنبوب الغاز الإفريقي – الأطلسي، الذي يخدم أكثر من 400 مليون إفريقي في دول غرب إفريقيا، وفي الوقت نفسه سيضمن إمدادات مستدامة لاحتياجات أوروبا من الغاز. ويبرز أيضاً مسلسل الرباط للدول الإفريقية الأطلسية الذي يمكن أن ينفتح على الواجهة الأطلسية الأوروبية، والمبادرة الملكية لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي. وتُشكل هذه الأخيرة مبادرة إقليمية رائدة للإندماج الإقليمي والقاري، حيث ستتحول الصحراء المغربية إلى جسر لوجيستي وتنموي عملاق يخدم مصالح شعوب الدول الإفريقية الحبيسة في الصحراء الإفريقية الكبرى وغرب إفريقيا، وستخلق لاقتصاديات الدول الأربعة فرصة واعدة من أجل التكامل الاقتصادي والاندماج الإقليمي والانفتاح على الشركاء الأوروبيين على قاعدة رابح – رابح.
بالنظر إلى التعقيدات السياسية الداخلية التي تمر بها حكومة بيدرو سانشيز الحالية، واعتمادها على تحالفات هشة تفتقر للتوافق السياسي حول العديد من القضايا، فإن تأكيد الموقف الإسباني الداعم لمغربية الصحراء يرسخ كونه قراراً استراتيجياً للدولة الإسبانية عابراً للحسابات الانتخابية والسياسية الضيقة، فالمصالح العليا المشتركة تفرض هذا الثبات؛ وفي مقدمتها الملفات الثقيلة التي تتجاوز عمر أي حكومة، مثل التنظيم المشترك لكأس العالم 2030 ، والتعاون الأمني المستمر والحيوي في مكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب. إضافة إلى ذلك، فإن القرار الأممي 2797 قد قدم إلى الإسبان و مختلف دول العالم منطلقاً أخلاقياً وسياسياً قوياً لتكريس مواقفهم الداعمة لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية. هذه العوامل تساهم في الدفع بالموقف الإسباني إلى جعله حقيقة دبلوماسية راسخة تهدف إلى تثبيت تحالف استراتيجي عابر للأيديولوجيات يخدم المصالح العليا الإسبانية .
من هذا المنطلق، فإن الانتقال من مرحلة الدعم الدبلوماسي والسياسي وإعلانات النوايا إلى تنزيل المواقف عبر سياسات اقتصادية واستثمارية مباشرة ، أصبح ضرورة إستراتيجية فالدبلوماسية الفاعلة تتطلب ترجمة الوضوح السياسي إلى مكاسب ملموسة. لذا، فإن العمل على برمجة خارطة طريق واضحة لفتح قنصلية إسبانية في العيون أو الداخلة لن يكون إجراء إستعراضيا أو رمزيا، بل هو تثبيت للقرار الإسباني من خلال الاستثمار الاقتصادي، ليصبح لقرينة الدعم السياسي جذور في الواقع التنموي للأقاليم الجنوبية. هذا التحرك سيضمن لمدريد موقعاً متقدماً كبوابة رئيسية للمشاريع الأوروبية نحو إفريقيا، ويحول الدعم السياسي إلى ركيزة اقتصادية وعملية تعزز الأمن البشري والرخاء المشترك.
تؤكد نتائج اللجنة المشتركة العليا والمنتدى الاقتصادي الأخير أن العلاقات بين المملكة المغربية والمملكة الإسبانية تشكل روابط حضارية عميقة الجذور ومتشابكة في النسيج التاريخي المتوسطي. هذا التحالف الاستراتيجي يمثل اليوم ركيزة أساسية للتكامل البيني الشامل، ويتجاوز حدود الجوار ليرسخ الأمن والتنمية المشتركة ، فالالتزام بالسقف الزمني المحدد لانعقاد اللجنة العليا المشتركة يبعث برسالة واضحة لا لبس فيها: متانة هذه العلاقات وقوتها البينية المحصنة ضد التقلبات السياسية. هذا التوقيت المنتظم يرسخ الشراكة كـخيار استراتيجي للدولة في البلدين.
في نفس السياق أكدت كل من الدبلوماسية المغربية، من خلال إلتزامها الكامل بالرؤية الملكية المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس، والدبلوماسية الإسبانية، من خلال واقعيتها، على حنكة فائقة في تثبيت مسار الرباط-مدريد كأولوية قصوى. وتمكنت بفعالية من فصله عن كافة المسارات السياسية الإقليمية الأخرى، وخصوصاً مسار مدريد-الجزائر بتعقيداته و مطالبه الغير الواقعية و المستحيلة. هذا التموضع يضمن أن الشراكة الثنائية مع المغرب تعمل اليوم كقوة دفع مستقلة للتنمية البينية، ترتكز على المصالح العليا المشتركة، وتجعل من محور الرباط-مدريد نموذجاً حيوياً لاستقرار المنطقة ومركزا لجهود التكامل الأورو -أفريقي.




