مجتمع

ديبلوماسية الملك محمد السادس : مدرسة عالمية في العلاقات الدولية

 

بقلم : البراق شادي عبد السلام

 

شكل اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش العلوي المجيد نقطة تحول مفصلية في تعاطي المملكة المغربية مع قضية وحدتها الترابية ، إنطلاقا من المسؤولية الشرعية و التاريخية و الدستورية للمؤسسة الملكية بإعتبارها المعبر الأوحد و الوحيد على تطلعات الشعب المغربي في الحرية و الكرامة و العيش الكريم ، فبدلاً من الاستمرار في مقاربة “إدارة النزاع” ضمن مسارات تقليدية طال أمدها بأثمانها الباهظة سياسيا و إجتماعيا و إقتصاديا، أسس الملك لدبلوماسية واقعية رصينة قائمة على عقيدة الوضوح والثبات، هدفها الحاسم هو “إدارة الحل” وإنهاء النزاع المفتعل بشكل نهائي وواقعي. هذه الرؤية الاستراتيجية حولت النزاع الإقليمي المفتعل من قضية إقليمية تُدار وفق توافقات المحاور الكبرى إلى ثابت وطني لا يقبل المساومة، وأصبح المعيار الذي يُقَيَّم به صدق الشراكات وحقيقة الصداقات الخارجية للمملكة. وقد تجسدت هذه المقاربة في مسار متكامل يرتكز على ركائز سياسية، تنموية، ودبلوماسية متوازنة، حصدت اعترافاً دولياً متنامياً، رسّخ السيادة المغربية كحقيقة ثابتة على الأرض.

 

تعتمد الدبلوماسية الملكية المغربية، منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، على عقيدة الوضوح والثبات التي حوّلت ملف الصحراء من قضية إقليمية تُدار إلى ثابت وطني لا يقبل المساومة. وفي هذا السياق، تجسدت هذه العقيدة في إعلان جلالة الملك أن قضية الصحراء هي “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، مما يعني أنها أصبحت المعيار الوحيد والفاصل لتقييم الشراكات وصدق الصداقات الخارجية. هذا التأسيس الحازم أنهى مرحلة الغموض والتردد الدولي، وفرض على جميع الشركاء والأطراف الإقليمية والدولية ضرورة الاعتراف الصريح واللامشروط بـالسيادة الوطنية الكاملة وغير القابلة للتفاوض للمملكة على أقاليمها الجنوبية، رافضاً رفضاً باتاً أي محاولة للتعامل المزدوج أو الانتقائي مع وحدة المغرب الترابية و هو الأمر الذي كرسه القرار الأممي 2797 بشكل واضح و لا لبس فيه .

وتقوم هذه الدبلوماسية على ثلاث ركائز عملياتية حاسمة :

– أولاً، تطويق الطرح الإنفصالي سياسيا و ديبلوماسيا عبر ترسيخ مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية التي تم طرحها على طاولة الحل السياسي كإطار نهائي و وحيد للنزاع الإقليمي المفتعل، باعتبارها الحل الأكثر جدية وواقعية ومصداقية كما تؤكد على ذلك قرارات مجلس الأمن، مما ألغى أي مرجعية أخرى للحل .

 

– ثانياً، الربط العضوي بين الدبلوماسية والتنمية، من خلال إطلاق النموذج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية، الذي حول مدن الصحراء إلى قطب اقتصادي وبوابة استراتيجية للمغرب نحو عمقه الإفريقي و حقق إرتقاءا إجتماعيا غير مسبوق لساكنة الأقاليم الجنوبية. هذه المقاربة البناءة رسخت السيادة المغربية كحقائق ثابتة على الأرض، مدعومة بوجود عشرات القنصليات الأجنبية في الداخلة و العيون، لتؤكد أن المغرب لا يدير نزاعاً بل ينفذ حلاً عززته الإرادة الدولية والإنجازات التنموية.

 

– ثالثا : تتجسد الرؤية المغربية الطموحة للأقاليم الجنوبية في إطلاق مبادرات هيكلية إقليمية تعمل على تحويل المنطقة إلى جسر حضاري متفرد وفضاء لوجستي عملاق يخدم التكامل الإفريقي الشامل. ويبرز ذلك جلياً في المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس، والرامية إلى تمكين دول الساحل غير الساحلية من الوصول إلى المحيط الأطلسي، عبر استغلال البنية التحتية المغربية، وخاصة ميناء الداخلة الأطلسي الجديد، فضلاً عن تطوير الممر الاقتصادي القاري الأطلسي (كوريدور محمد السادس للتنمية). هذا الممر، إلى جانب البنية التحتية المتكاملة، يحول المنطقة إلى شريان حيوي لدعم طموحات التعاون جنوب-جنوب. كما يعزز هذا التوجه مشروع أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، الذي يمر جزء كبير منه عبر الأقاليم الجنوبية، ليؤكد دور المنطقة كـمنصة استراتيجية تعمل على ربط مصادر الطاقة الإفريقية بالأسواق الأوروبية في إطار التعاون شمال-جنوب، وخدمة الأمن الطاقي الإقليمي. هذه المبادرات ترسخ مكانة الصحراء كمركز محوري للإشعاع والتنمية المشتركة.

 

وبناءً على ذلك، تتميز المقاربة الملكية المغربية لمعالجة قضية الصحراء المغربية بطابعها الاستباقي والواقعي، مما يضعها في تباين جذري مع سياسات باقي الأطراف الفاعلة في الملف و الغارقة في الشوفينية و مقاربات جامدة أو داعمة لأطروحات تجاوزها الزمن أو محاولة لعب دور إقليمي هو أكبر بكثير من قدراتها. حيث تتركز المقاربة المغربية في جوهرها على ركيزة المبادرة السياسية للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، التي قدّمها المغرب عام 2007، والتي تمثل حلاً وسطاً وجدياً وواقعياً قابلاً للتطبيق، يهدف إلى تسوية النزاع الإقليمي المفتعل بشكل نهائي تحت السيادة الوطنية الكاملة للمملكة. هذه المبادرة الخلاقة تتفوق على وهم الاستفتاء الذي أصبح مستحيلا عمليا لأسباب معروفة، وتسمح للسكان المحليين بممارسة حقهم في التدبير الذاتي لشؤونهم في إطار الجهوية الموسعة. وقد أثمرت هذه الرؤية عن “دبلوماسية ملكية” فعالة تتسم بالوضوح والحزم وثبات الموقف، حيث جعل الملك محمد السادس من قضية الصحراء بكل المسؤولية و الوضوح و الإلتزام بخدمة القضايا الوطنية : “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، ما أدى إلى حشد زخم دولي غير مسبوق، تمثل في اعتراف دول كبرى ووازنة (كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا و إسبانيا) بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية، وافتتاح عشرات القنصليات العامة للدول الإفريقية والعربية والأمريكية والآسيوية في مدينتي العيون والداخلة، ليصبح هذا الاعتراف الدولي المتنامي شهادة على مصداقية المقاربة المغربية وجديتها، وخطوة بعيدة عن المقاربات التي تعتمد على المماطلة والتمسك بالأطروحات الانفصالية و المخططات التقسيمية الموروثة عن الفكر الإستعماري و مخلفات مؤتمر برلين 1880 .

 

بالإضافة إلى ذلك، فإن المقاربة المغربية تتمثل في البعد التنموي الاقتصادي والاجتماعي المندمج، والذي يعتبر دليلاً ملموساً على ترسيخ السيادة المغربية على أرض الواقع. حيث أطلق المغرب “النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية” باستثمارات ضخمة، يهدف تحويل المنطقة إلى قطب اقتصادي إقليمي وجسر للتواصل بين المغرب وعمقه الإفريقي. يشمل هذا النموذج مشاريع استراتيجية ضخمة مثل ميناء الداخلة الأطلسي، وتطوير البنى التحتية، والاستثمار في الطاقات المتجددة، وتكريس الجهوية المتقدمة لتمكين سكان الأقاليم الجنوبية من إدارة شؤونهم التنموية بأنفسهم والمساهمة في صنع القرار السياسي والاقتصادي للإقليم. هذا التركيز على التنمية البشرية والاقتصادية يمثل نقطة تباين مع سياسات دول الجوار، التي ظلت لعقود تعتمد مقاربات عسكرية وسياسية متجاوزة تركز على دعم أطروحة الانفصال و المخططات التقسيمية دون أن تقدم أي نموذج تنموي حقيقي أو حلول عملية لرفاه السكان في المنطقة المتنازع عليها، مما يعزز الموقف المغربي القائم على “الربط بين السيادة والتنمية” كجزء لا يتجزأ من حل النزاع.

 

وفي نفس السياق، فإن التباين الجوهري مع سياسات دول الجوار، وتحديداً الجزائر التي تعتبر الطرف الرئيسي الداعم لجبهة البوليساريو، يكمن في طبيعة الأهداف والمقاربات المتبناة. ففي الوقت الذي تقدم فيه المقاربة الملكية حلاً سياسياً واقعياً (الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية )يهدف إلى إنهاء النزاع وتحقيق الاستقرار والاندماج الإقليمي، تتبنى سياسات الجوار مقاربة أيديولوجية رافضة للتطورات الدولية، وتُصر على التمسك بأطروحة الاستفتاء التي أثبتت عدم قابليتها للتطبيق، كما ترفض دول الجوار الاعتراف بدورها ومسؤوليتها كطرف رئيسي في النزاع، وتفضل التواري خلف ستار “الملاحظ” رغم الدعم اللامحدود على جميع المستويات الذي تقدمه للبوليساريو، وهو ما يطيل أمد النزاع ويعرقل جهود الأمم المتحدة لإيجاد حل سياسي نهائي. فالمقاربة المغربية تسعى لإرساء الأمن والازدهار الإقليمي بالانطلاق من وحدة وسيادة الدولة، بينما تُغلب سياسات الخصوم الاعتبارات الجيوسياسية الضيقة ودعم الانفصال، مما يؤدي إلى استمرار حالة الجمود والتوتر الإقليمي على حساب مصالح شعوب المنطقة المغاربية، وهذا التناقض في المنهج بين البحث عن حل شامل وواقعي وبين المساهمة في إدامة حالة الصراع هو ما يميز المقاربة الملكية بوضوح.

 

وبموازاة ذلك، عملت الدبلوماسية المغربية بذكاء إستراتيجي على تحويل طبيعة النزاع من مسألة تصفية استعمار إلى قضية حل سياسي واقعي، عبر تثبيت مبادرة الحكم الذاتي كـ”الحل الوحيد الجدي وذي المصداقية” في الأروقة الأممية والدولية. وبالتوازي، استثمر المغرب بقوة في عمقه الإفريقي من خلال دبلوماسية الجنوب-جنوب القائمة على التنمية المتبادلة. هذه القوة الناعمة الإقليمية، التي تجسدت في افتتاح العديد من القنصليات في الأقاليم الجنوبية، أضفت ثقلاً كبيراً على الموقف المغربي، مما ضمن أن تظل قضية الصحراء خارج دائرة المساومة أو التأثر بالتقلبات والتوترات العالمية العارضة.

 

و على ضوء ما سبق ، يُفهم التحول الذي قاده جلالة الملك محمد السادس من “إدارة النزاع” إلى “إدارة الحل” في ملف الصحراء المغربية عبر تبني مقاربة استباقية وواقعية لحسم النزاع، بدلاً من الاكتفاء بالتعامل مع الوضع القائم والقرارات الأممية التي طال أمدها. جوهر هذا التحول يتمثل في طرح مبادرة الحكم الذاتي عام 2007، والتي تجاوزت إطار “إدارة الأزمة” عبر تقديم حل سياسي واضح، يتمسك بالسيادة المغربية الكاملة على الأقاليم الجنوبية، وفي الوقت ذاته يمنح ساكنة المنطقة صلاحيات واسعة لتدبير شؤونهم محلياً. هذه المبادرة، التي تعتبرها الأمم المتحدة ومجلس الأمن “جدية وذات مصداقية”، نقلت الملف من البحث عن حلول ممكنة (كالاستفتاء غير العملي) إلى التركيز على تنزيل حل وحيد هو الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.

ولإنجاح هذا التحول، تجلت “إدارة الحل” على أرض الواقع من خلال الاعتماد على مسار الدبلوماسية الهجومية والعمل التنموي الموازي. فعلى الصعيد الدبلوماسي، نجح المغرب في حشد تأييد دولي متزايد، تجسد في اعتراف دول كبرى وفتحها قنصليات في مدينتي العيون والداخلة، مما يمثل اعترافاً عملياً بالسيادة المغربية. وعلى الصعيد الداخلي، أطلق المغرب النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، باستثمارات ضخمة، لتعزيز البنية التحتية والتمكين الاقتصادي والاجتماعي للساكنة، مما يؤكد أن الحل ليس سياسياً ودستورياً فقط، بل هو مشروع مجتمعي شامل يهدف لربط المنطقة بشكل نهائي بالوطن الأم وتحويلها إلى قطب اقتصادي إقليمي، منهياً بذلك أي محاولة لإبقاء النزاع ضمن مربع التجميد أو المناورة.

 

حيث نجحت الدبلوماسية المغربية في ترسيخ مبدأ أن السيادة الوطنية والوحدة الترابية، المتمثلة في قضية الصحراء، هي المعيار الأوحد الذي تُبنى عليه قوة ومصداقية أي علاقة استراتيجية مع أي طرف. في الوقت نفسه، تجنب المغرب الانزلاق في سياسة الاصطفاف الحادة التي فرضتها الأزمات الجيوسياسية الأخيرة، مثل الحرب في أوكرانيا أو المنافسة بين واشنطن وبكين. حيث انتهجت المملكة استراتيجية “تنويع الشراكات” التي تضمن عدم الاعتماد على محور واحد. فبينما حافظت على عمقها التاريخي مع الغرب، عززت في الوقت ذاته علاقاتها مع القوى الصاعدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. هذا التوازن المتقن يمنح المغرب استقلالية في القرار ويحميه من ضغوط “الاختيار” بين الأقطاب المتنافسة، مما يسمح له بمواصلة حشد الدعم لقضية الصحراء من مختلف الفضاءات الجيوسياسية.

 

وفي الإطار الأوسع، يكمن النجاح الأبرز للعقل الاستراتيجي المغربي في قدرته على “نزع الطابع الجيوسياسي” عن ملف الصحراء المغربية. فبدلاً من أن يتحول النزاع إلى نقطة تماس بين القوى العالمية الكبرى، عملت الدبلوماسية الملكية على جعله ملفاً ثنائياً/إقليمياً يخص سيادة المغرب ووحدة ترابه، ويُحل في إطار الأمم المتحدة ومجلس الأمن حصراً، وفقاً لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. هذا الإبعاد الاستراتيجي حمى القضية من أن تتحول إلى ورقة مساومة أو ساحة صراع وكلاء ضمن أجندات القوى الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى