مجتمع

كيسنجر كان محقاً: صراع إيران… بداية لكل شيء؟

 

بقلم : البراق شادي عبد السلام

 

يسجل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط تصعيدًا غير مسبوق عنوانه العريض التعقيد الإستراتيجي ، مع تحول المواجهة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، إلى مرحلة العمليات العسكرية المباشرة. فبعد سلسلة من الضربات الجوية المركزة التي شنتها الولايات المتحدة على ثلاث منشآت نووية إيرانية حيوية، ردت طهران بإجراءات تصعيدية شملت تهديد مضيق هرمز وإطلاق صواريخ باليستية نحو إسرائيل. هذه التطورات لا تُشير فقط إلى تآكل خطوط التماس التقليدية للصراع و تغيير جذري في قواعد الإشتباك الآمنة، بل تُبرز أيضًا الطبيعة المعقدة والمتشابكة للمخاطر في المنطقة، حيث تتداخل الأهداف النووية مع القدرات الصاروخية وشبكات الوكلاء الأقليميين، مما ينذر بعواقب وخيمة تتجاوز الحدود الجغرافية إلى كارثة إنسانية متعددة الأبعاد .

 

في هذا السياق المتوتر، تبدو المنطقة وكأنها على شفا حافة تصعيد أوسع نطاقًا، يعيد إلى الأذهان تحذيرات الدبلوماسي المخضرم هنري كيسنجر، الذي أشار ذات مرة إلى أن “الحرب مع إيران لن تكون نهاية لأي شيء، بل ستكون بداية لكل شيء”. هذه المقولة تكتسب اليوم رنينًا خاصًا، فبينما تسعى واشنطن وتل أبيب لتحييد القدرات النووية والعسكرية الإيرانية، فإن التداعيات المحتملة لأي صراع شامل قد تتجاوز الأهداف المحددة لتُطلق العنان لسلسلة لا يمكن التنبؤ بها من الأحداث، مما يُعقد من جهود الاستقرار الإقليمي والدولي.

 

قبل التطرق إلى الهجوم الأمريكي على المنظومة النووية الإيرانية لا بد من الإشارة ان القوات الإسرائيلية لا زالت مستمرة في حملتها الجوية المركزة ضد البرنامج الصاروخي الباليستي الإيراني وقدرات الطائرات بدون طيار، في مسعى حثيث لتقويض قدرة طهران على الرد وتقليل التهديد الذي تشكله على المدنيين الإسرائيليين. منذ تاريخ 20 يونيو 2025، شن سلاح الجو الإسرائيلي موجة جديدة من الضربات على بنى تخزين وإطلاق الصواريخ الباليستية، حيث أفادت التقارير بوقوع ضربات إسرائيلية قرب قيادة تدريب الإمام علي التابعة للحرس الثوري الإيراني في شيراز، بالإضافة إلى لقطات تُظهر تداعيات ضربة على قاذفة صواريخ في كرمانشاه. هذه الضربات لا تكتفي باستهداف البنية التحتية، بل تمتد لتشمل قيادات عليا في الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، في استراتيجية تُعرف بـ”استئصال الرأس” لتعطيل شبكات الدعم الإيرانية ، حيث تُشير التطورات الأخيرة إلى مقتل قائد الوحدة 190 في الحرس الثوري الإيراني، بهنام شهرياري، المسؤول عن نقل الأسلحة والأموال إلى ما يسمى ب “محور المقاومة”، بما في ذلك حزب الله، عبر شبكة معقدة من الشركات الوهمية. كما قُتل مسؤول ملف فلسطين في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني سعيد إزادي ، ويتولى الإشراف على كل أشكال الدعم العسكري والمالي للفصائل الفلسطينية، إضافة إلى إدارة عمليات التدريب والتجنيد والتنسيق الأمني مع قيادات تلك الفصائل و الذي كان حلقة وصل رئيسية بين إيران وحماس ويُعتقد أنه أحد “مهندسي” هجوم 7 أكتوبر. في سياق متصل، أعلن الجيش الإسرائيلي عن مقتل قائد الفوج الثاني للطائرات بدون طيار التابع للقوة الجو-فضائية في الحرس الثوري الإيراني، أمين بور جوداكي ، حيث صرح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إيفي ديفرين بأن القوات الإسرائيلية إستهدفت ما يقرب من 950 طائرة بدون طيار متفجرة داخل إيران قبل إطلاقها. وشملت الضربات الأخيرة استهداف قاذفة طائرات بدون طيار مزدوجة السكة في أصفهان كانت جاهزة للإطلاق الفوري، بالإضافة إلى مستودعات طائرات بدون طيار ومستودع أسلحة آخر في بندر عباس. كما استُهدفت قاعدة مجموعة الصواريخ والمدفعية 64 التابعة للحرس الثوري في الأهواز، المسؤولة عن توجيه وتنسيق الأصول الجوية الإيرانية، ومنشأة شاهرود الصاروخية في سمنان، المعروفة بتطوير واختبار صواريخ الوقود الصلب ،تُعد هذه الاستهدافات دلالة على النقاط الحيوية التي يسعى الجيش الإسرائيلي لضربها لتقليل التهديد الإيراني، بالرغم من أن الحرس الثوري يمتلك هيكلاً هرمياً يمكّنه من تجاوز مثل هذه العمليات دون تعطيل طويل الأمد، إلا أنها تُحدث اضطرابات مؤقتة في العمليات والتخطيط .

 

في نفس السياق شنت الولايات المتحدة ضربات جوية متزامنة ومركزة على ثلاث منشآت نووية إيرانية، مستخدمة قنابل اختراق التحصينات (GBU-57 MOP) وصواريخ توماهوك كروز. هذه العمليات أدت إلى “أضرار بالغة وقصوى” وفقًا للتقارير الأمريكية. على الرغم من ذلك، تُشير التقييمات الأولية من الجانب الإسرائيلي إلى أن منشأة فوردو لتخصيب الوقود (FEEP) لم تُدمّر بالكامل، وإن تعرضت لأضرار جسيمة، مما يعني أن قدراتها التشغيلية قد تضررت بشكل كبير، لكن بنيتها التحتية الأساسية لا تزال قائمة.

استهدفت الضربات الأمريكية بشكل خاص منشأة فوردو في محافظة قم، حيث تم إسقاط 12 قنبلة GBU-57 MOP، وهو ما أكدته صور الأقمار الصناعية بوجود ست فوهات دخول محتملة. كان الهدف هذه الضربات إلى تعطيل قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم، خاصة وأن فوردو كانت تنتج كميات كافية لبناء قنبلة نووية شهريًا. بالإضافة إلى ذلك، استُهدف موقع نطنز النووي بقنبلتين من طراز GBU-57 MOP، وهو موقع كان قد تعرض سابقًا لعدة ضربات إسرائيلية أدت إلى تدمير آلاف أجهزة الطرد المركزي. وشملت العمليات أيضاً ضرب موقع نووي غير محدد في أصفهان بصواريخ كروز، يُرجح أنه مركز أصفهان للتكنولوجيا النووية، مما يشير إلى محاولة متكاملة لشل قدرات إيران النووية المتعددة.

 

كرد أولي على الضربات الأمريكية، بدأت إيران في اتخاذ إجراءات انتقامية تصعيدية. تمثلت هذه الإجراءات في موافقة البرلمان الإيراني على مقترح إغلاق مضيق هرمز، الممر الملاحي الحيوي الذي يمر عبره حوالي 20% من صادرات النفط العالمية، مما يُهدد بتعطيل حركة التجارة الدولية. ترافق ذلك مع تقارير عن تشويش في إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في المضيق، مما يشير إلى محاولات إيرانية للتحكم في البيئة البحرية. حيث تزامن هذا مع إطلاق إيران وابلين من الصواريخ الباليستية على إسرائيل، استهدفت مدنًا مثل حيفا وتل أبيب، مما أدى إلى إصابات وأضرار مادية، استخدمت فيها صواريخ طويلة المدى ذات وقود سائل وصلب. هذه التطورات تُشير إلى تصعيد خطير في ديناميكيات الصراع، مع احتمالية عالية لاستمرار التصعيد وتداعياته على الأمن الإقليمي والدولي .

 

على مستوى تداعيات الهجوم الأمريكي على الأمن الإقليمي و بشكل خاص أمن دول الخليج العربي و في محاولة لإستشراف الوضع المستقبلي من خلال المعطيات المتاحة فالأكيد أن الضربة العسكرية الأمريكية المباشرة للمنشآت النووية الإيرانية، باستخدام طائرات B-2 وقنابل MOP، تشكل نقطة مفصلية في ديناميكيات الصراع في للشرق الأوسط، مما يُنبئ بتحولات جذرية في التوازنات الإقليمية، لا سيما بالنسبة لدول الخليج العربي. لطالما نظرت دول الخليج، كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، إلى البرنامج النووي الإيراني باعتباره تهديدًا وجوديًا لأمنها واستقرارها. هذا الهجوم، الذي يُبرهن على عزم واشنطن على استخدام القوة العسكرية المباشرة ضد طهران، قد يدفع دول الخليج نحو تعميق شراكاتها الأمنية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ويشمل ذلك تكثيف التنسيق الاستخباراتي والعسكري، وتبادل المعلومات حول التهديدات الإقليمية، وربما زيادة التواجد العسكري الأمريكي. وعلى النقيض، قد يُعقّد هذا التصعيد مسارات التطبيع والتقارب التي سعت بعض دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، إلى ترسيخها مؤخرًا مع إيران، إذ ستجد هذه الدول نفسها مضطرة لإعادة تقييم جدوى وأمان هذه المسارات في ظل تصعيد عسكري مباشر وتهديدات إيرانية متكررة للسيادة الخليجية.

 

من المرجح أن يُحرّك هذا التطور العسكري الحاسم بعض القوى الإقليمية، التي كانت تُوازن بين المحاور الدولية، إلى الاصطفاف بوضوح أكبر مع المعسكر المناهض لإيران، أو على الأقل، تعزيز تحالفاتها القائمة لضمان أمنها الخاص في بيئة إقليمية أكثر اضطرابًا وتغيرًا. مما قد يُسفر ذلك عن تنسيق أمني واستخباراتي أكبر بين دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل، حتى وإن ظل ذلك غير معلن في كثير من الأحيان، نظرًا للمصالح المشتركة في احتواء النفوذ الإيراني وتقويض قدراتها النووية. في المقابل، قد تسعى إيران إلى تدعيم “محور المقاومة” الذي تقوده، وممارسة ضغوط متزايدة على وكلائها في المنطقة لزيادة نشاطهم ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية وحلفائهما، مما قد يؤدي إلى توسيع نطاق الصراع ليشمل مناطق أخرى كالعراق وسوريا ولبنان واليمن.

 

من المتوقع أن يدفع هذا الهجوم إيران إلى إعادة تقييم شاملة لاستراتيجيتها النووية، وقد يزيد من الضغوط عليها لتقديم تنازلات كبرى في المفاوضات النووية ، قد تصل إلى دفعها للتنازل عن برنامجها النووي بشكل كامل أو فوري. فالضربات العسكرية المباشرة على منشآت حيوية تشكل رسالة قوية وواضحة من واشنطن بأن الخيار العسكري جاد ومتاح، وأن الولايات المتحدة لن تتسامح مع اقتراب إيران من حيازة السلاح النووي. هذا الضغط قد يدفع القيادة الإيرانية، التي تواجه تحديات اقتصادية داخلية وعزلة دولية متزايدة، إلى التفكير بجدية في تخفيف حدة التوتر وتجنب المزيد من المواجهة العسكرية التي قد تُهدد نظامها. قد ترى إيران في المفاوضات فرصة لتخفيف العقوبات الاقتصادية واستعادة بعض الشرعية الدولية، مع الحفاظ على جزء من قدراتها النووية لأغراض سلمية معلنة.

 

على ضوء ما سبق تُمثل العملية العسكرية الأمريكية تحديًا وجوديًا لطهران، وتكشف عن ضعف ملموس في قدرتها على الرد المباشر والمتناسب. بالرغم من التهديدات المتكررة بالانتقام، فإن الخيارات المتاحة أمام إيران محدودة ومحفوفة بالمخاطر الجسيمة. أي رد عسكري مباشر على الولايات المتحدة أو إسرائيل قد يؤدي إلى تصعيد كارثي، ويستدعي ضربات أشد قد تستهدف البنية التحتية الحيوية للنظام وقواعد الحرس الثوري نفسه. تُدرك القيادة الإيرانية تمامًا أن قوتها العسكرية، رغم تطورها في بعض الجوانب، لا تزال بعيدة عن منافسة القوة التدميرية الأمريكية والإسرائيلية المشتركة، خاصة في سياق حرب تقليدية واسعة النطاق. هذا الإدراك يدفع طهران إلى التفكير مليًا قبل اتخاذ أي خطوة قد تؤدي إلى تدمير ما تبقى من قدراتها، أو تدهور الأوضاع الاقتصادية المتأزمة بالفعل، مما قد يُهدد استقرار النظام من الداخل. يتفاقم هذا الضعف بفعل الحسابات الداخلية المعقدة والصراع على السلطة داخل أروقة الحكم، خاصة مع تقدم المرشد الأعلى علي خامنئي في العمر وتزايد التكهنات حول خلافته. قد يرى النظام، وفي مقدمته مجتبى خامنئي قائد الجناح الأكثر براغماتية والمعنية بانتقال السلطة، أن تقديم تنازلات في البرنامج النووي هو الثمن الأقل لدفع الولايات المتحدة لرفع بعض العقوبات، وتوفير بيئة أكثر استقرارًا لضمان استمرارية النظام ومرور عملية الخلافة بسلاسة ، فالخضوع للضغوطات الأمريكية و تقديم تنازل كامل و علنيً عن البرنامج الصاروخي و الباليستي و النووي هو المسار الأكثر أمانا للحفاظ على سيطرة نظام الولي الفقيه على السلطة في طهران .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى