مجتمع

المغرب والقضية الفلسطينية: رؤية ملكية لسلام شامل ومستدام

 

بقلم : البراق شادي عبد السلام

 

تزامن اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش الدولة العلوية الشريفة مع مطلع الألفية الثالثة، حيث شهدت المنطقة شمال إفريقيا و الشرق الأوسط تحولات جيوسياسية عميقة، تمثلت في اندلاع انتفاضة الأقصى وما صاحبها من تداعيات إقليمية فارقة، مثل التغيرات السياسية و العسكرية في المشهد اللبناني المرتبطة بالانسحاب الإسرائيلي من جتوب لبنان وتفكيك جيش لبنان الجنوبي، وسقوط النظام العراقي بعد التدخل الأمريكي المباشر ، والرحيل الدراماتيكي للقائد ياسر عرفات، فضلاً عن تصاعد ظاهرة الإرهاب وتنامي التيارات المتطرفة مع صعود تعبيراتها الإسلاموية إلى المشهد السياسي . في خضم هذه المتغيرات الجوهرية، بلور العقل الاستراتيجي المغربي موقفًا سياسيًا راسخًا وواضحًا تجاه قضايا الشرق الأوسط. ارتكز هذا الموقف على تقديرات دقيقة تهدف إلى صون التوازنات الداخلية والخارجية للمملكة، بما يكفل للمغرب دورًا مؤثرًا في دعم القضية الفلسطينية يحافظ على الرصيد التاريخي لدعم المملكة للقضايا العادلة في الملف الفلسطيني، مع تجنب الانزلاق إلى دوامة الصراعات الإقليمية و الحسابات الجيوسياسية و الحفاظ على مسافة واحدة مع كل الأطراف الفاعلة على الأرض على أساس الإنحياز الكامل للشرعية الدولية و القانون الدولي الإنساني و العمل على ترسيخ علاقات الرباط مع المحيط العربي باعتباره جناحًا شرقيًا و جزءا إستراتيجيا للمقاربة المغربية للأمن القومي للدولة.

 

وعلى إثر اندلاع انتفاضة الأقصى مباشرة، التي انطلقت شرارتها أواخر سبتمبر 2000، بادرت المملكة المغربية إلى التعبير عن مواقف حازمة، تجسدت في تجميد كافة أشكال العلاقات مع إسرائيل في العام ذاته. جاء هذا القرار في سياق تصدر اليمين المتطرف للمشهد السياسي في تل أبيب، ممثلاً في حكومة أرييل شارون، التي تنصلت من اتفاقات السلام وأفضت بالمنطقة إلى حافة التوتر. هذا التجميد للعلاقات، الذي شمل إغلاق مكاتب الاتصال التي كانت قائمة، جاء احتجاجًا على إعلان إسرائيل وقف عملية السلام وقمعها لانتفاضة الأقصى. وقد أكدت الرباط حينذاك وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني ورفضها كل أشكال “العدوان” الإسرائيلي.

لقد كان هذا التجميد للعلاقات في عام 2000، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، خطوة دبلوماسية حاسمة أكدت موقف الرباط الرافض للعدوان الإسرائيلي ووقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك الحين، ظل المغرب، تحت قيادة الملك محمد السادس، وفيًا لمواقفه المبدئية، مؤكدًا باستمرار على حل الدولتين كسبيل وحيد لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. هذا الحل يتضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. و هو ماتترجمه المواقف المغربية الرسمية، منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر إلى اليوم، والتي تضمنتها العديد من بلاغات الديوان الملكي وبيانات وتصريحات وزارة الخارجية المغربية بشكل يعكس رؤية سياسية واضحة للمملكة إزاء هذا الملف، بعيدًا عن المزايدات السياسوية المتجاوزة والخطاب الإعلامي التعبوي. فقد عبرت المملكة في أكثر من مناسبة عن إدانتها الشديدة للأعمال العدائية التي تستهدف المدنيين وعمليات التهجير القسري وغيرها من الفظائع التي ارتكبتها آلة الحرب الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر، حيث تترجم حرص الفاعل المؤسساتي في المغرب على انسجام مواقفه السياسية والدبلوماسية مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان، بعيدًا عن المقاربات الجيوسياسية المتجاوزة والمصالح السياسية الضيقة.

 

لم يقتصر الالتزام المغربي على المواقف السياسية فحسب، بل امتد ليشمل انخراطًا دبلوماسيًا نشطًا في المحافل الدولية والإقليمية. ففي الأمم المتحدة، يدعم المغرب باستمرار القرارات التي تؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة. وقد دعا ممثلو المملكة المغربية عبر تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرارًا إلى وقف فوري ومستدام لإطلاق النار في غزة، وشددوا على أهمية احترام القانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين. علاوة على ذلك، دعا المغرب إلى قرار من مجلس الأمن الدولي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ضمن إطار زمني محدد. وقد وضعت رؤية جلالة الملك محمد السادس التي أكدها خطاب عيد العرش يوليوز 2024 خارطة طريق متكاملة لإحياء عملية السلام من خلال إطلاق حوار سياسي عبر قنوات إقليمية موثوقة، وبشكل متوازٍ مع وقف إطلاق النار، لدفع عملية السلام نحو هدفها لإقرار سلام عادل للجميع وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تضم قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وفق القرارات الأممية ذات الشأن، مما سيشكل مدخلاً أساسيًا لتحقيق الاستقرار الإقليمي ونزع فتيل حرب شاملة تهدد أمن واستقرار الشرق الأوسط. هذه الجهود الدبلوماسية تُمَوْقِعُ المغرب كقوة إقليمية فاعلة في محيطها الإقليمي والإسلامي، وتؤكد على استعداده اللامشروط لاستثمار حضوره المتميز وشبكة علاقاته في تعزيز فرص السلام والأمن.

 

فالدور الفعال للدبلوماسية الملكية في تكريس المواقف المغربية الثابتة تجاه القضايا العادلة في الملف الفلسطيني يتجلى في القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس للجنة القدس. هذه المسؤولية، التي يعتبرها جلالته “أمانة عظمى ومسؤولية كبرى”، لم تكن شرفية؛ بل تجسدت في مبادرات عملية وملموسة تهدف إلى حماية المدينة المقدسة ودعم صمود أهلها. وهكذا، فمن خلال وكالة بيت مال القدس الشريف، تُترجم التوجيهات الملكية السامية إلى مشاريع تنموية واجتماعية وإنسانية مباشرة، مؤكدة التزامًا يتجاوز الخطاب السياسي إلى الفعل الميداني. المملكة المغربية تتحمل مسؤوليتها التاريخية إزاء القضية الفلسطينية، مستندة إلى منطلقات رئيسية يؤطرها الموقف المغربي الثابت من الحق المشروع للشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وفي هذا الصدد، تضطلع رئاسة جلالة الملك للجنة القدس بدور محوري كآلية إسلامية تسعى للحفاظ على المقدسات الدينية في القدس الشريف، بما في ذلك المقدسات الإسلامية والمسيحية واليهودية في الأراضي الفلسطينية. هذا الحضور الدائم للمغرب في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى جانب بناء علاقاته مع كافة الأطراف وفق قواعد دبلوماسية واضحة، قد أظهر قدرته على الاضطلاع بأدوار طلائعية وفاعلة في سبيل إنجاح فرص السلام في الشرق الأوسط. وتُعزى هذه القدرة إلى عوامل أساسية كالمصداقية والمسؤولية والوضوح التي تميز الدبلوماسية المغربية، مما يجعل رئاسة جلالته للجنة القدس حلقة وصل بين مساعيه السياسية والعمل الميداني لوكالة بيت مال القدس الشريف، تحت إشرافه الشخصي والفعلي.

 

إلى جانب الدعم السياسي والدبلوماسي، قدم المغرب مساعدات إنسانية وتنموية ملموسة لفلسطين، لا سيما من خلال وكالة بيت مال القدس الشريف، الذراع التنفيذية للجنة القدس. بين عامي 2000 و2020، نفذت الوكالة مشاريع حيوية في قطاعات الشباب والرياضة والثقافة والمساعدة الاجتماعية (30.3 مليون دولار)، والصحة (5.45 مليون دولار)، والإسكان وترميم المباني التاريخية (9.5 مليون دولار). كما تميز المغرب بإيصال مساعدات إنسانية وطبية عاجلة إلى غزة عبر طرق برية غير مسبوقة، بتمويل جزء كبير منها من المال الخاص للملك محمد السادس، من أجل مساندة المتضررين من الوضع المأساوي للشعب الفلسطيني في غزة. هذه المبادرات تترجم المواقف المبدئية والتاريخية المغربية إزاء كل القضايا العادلة في العالم، ومن بينها القضية الفلسطينية، وتقطع الطريق أمام مروجي الفكر العدمي التيئيسي داخل الوطن وخارجه، وباقي الدوائر الإقليمية والدولية التي تستخدم الدم الفلسطيني المسفوك في غزة كوقود لتحقيق مصالح سياسوية ضيقة.

مواقف المملكة المغربية واضحة وصريحة في أن أي تسوية إقليمية تخص الشرق الأوسط تمر أساسًا من خلال الحفاظ على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف المتمثلة في دولة مستقلة بعاصمتها القدس الشريف وباقي الحقوق التي تؤطرها القرارات الأممية في ذات الشأن.

 

وفي سياق متصل، يُعدّ قرار المملكة المغربية بإعادة العلاقات الثنائية مع إسرائيل في

ديسمبر 2020 خطوة استراتيجية مدروسة بعمق، اتخذها المغرب في سياق إقليمي ودولي معقد، يتسم بتصاعد المطالبات الدولية بالدفع بعملية السلام وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني. لم يكن هذا القرار مجرد إجراء دبلوماسي روتيني، بل هو نتاج تحليل معمق للوضع الجيوسياسي وتداعياته المحتملة على بناء فرص حقيقية للسلام، مع الأخذ في الاعتبار المصالح العليا للشعب المغربي. لقد أظهرت أحداث مثل “7 أكتوبر ” قدرة العقل الاستراتيجي المغربي على قراءة المشهد الإقليمي بدقة واستشراف التطورات، مؤكدًا على مكانة المغرب كفاعل رئيسي في صناعة السلام ودعم الاستقرار في العالم، وذلك بفضل مصداقية دبلوماسيته ووضوح مواقفها. وفي هذا الإطار، أثبتت الدبلوماسية المغربية، بتوجيهات ملكية سامية، أن المغرب قوة إقليمية فاعلة ومستعدة لاستثمار حضورها المتميز وشبكة علاقاتها لتعزيز فرص السلام والأمن. فمن خلال تعميق علاقاته مع الجانب الإسرائيلي وفق قواعد دبلوماسية واضحة، يسعى المغرب بثبات للعب أدوار طلائعية في إنجاح فرص السلام بالشرق الأوسط. ويعزز من هذه الأدوار ترؤس جلالة الملك محمد السادس للجنة القدس، الذي يترجم حرص جلالته على حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية واليهودية في القدس الشريف، ويعكس التزام المغرب الدائم بالقضية الفلسطينية، سواء عبر المساعي السياسية أو العمل الميداني الذي تقوم به وكالة بيت مال القدس الشريف.

 

بشكل عام يتميز نهج المغرب في التعامل مع القضية الفلسطينية بكونه يسعى ليكون جسر التواصل الفاعل، مستفيدًا من روابطه التاريخية العميقة مع الجالية اليهودية من أصول مغربية في إسرائيل و العالم حيث يُقدم هذا الجسر الحضاري والتاريخي كرافعة استراتيجية في جهود المغرب الدبلوماسية لتعزيز مسارات السلام والحوار البناء، مما يمنح المملكة موقعًا فريدًا للتأثير في المشهد الإقليمي من منطلق الشرعية التاريخية والتقارب الحضاري ، في نفس السياق يؤكد تركيز جلالة الملك محمد السادس على تحقيق “سلام الشجعان” والدعوة المستمرة للمفاوضات بين القادة الذين يؤمنون حقًا بالسلام، على طموح المغرب نحو مسار بناء ومستدام للمضي قدمًا في حل الصراع. تؤكدها مشاركة المغرب النشطة في مختلف المحافل الدولية، ودوره المحوري في استضافة مبادرات مهمة، مثل الاجتماع الخامس لـ”التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين” في الرباط خلال مايو 2025. هذا التحالف، الذي أُطلق في الأمم المتحدة، يهدف إلى إحياء عملية السلام من خلال تقييم المبادرات السابقة، وتعزيز المؤسسات الفلسطينية، والأسس الاقتصادية للسلام. من خلال جهود تعكس طموح المغرب في أن يكون ميسرًا دبلوماسيًا و بانيًا للجسور في المشهد المعقد للشرق الأوسط، مؤكدًا أن انخراطه ليس مجرد استجابة لمتغيرات جيوسياسية، بل هو التزام مبدئي راسخ يهدف إلى إقرار سلام عادل وشامل.

 

ختامًا، تتسم مواقف جلالة الملك محمد السادس طوال ستة و عشرين سنة من حكمه إزاء ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي برسوخ المواقف و ثبات التوجهات مع حرص شديد على الحفاظ على مقومات السيادة والاستقلالية أثناء صياغة القرار الديبلوماسي و السياسي مرتكزة على حتمية الحفاظ على المصالح العليا للشعب المغربي ومتطلبات الأمن القومي. ولطالما كانت المملكة من خلال مواقف ملكية واضحة في طليعة الدول التي شجبت العدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، وقدمت المساعدات الطبية والإنسانية بشكل عاجل عبر طرق غير مسبوقة، مؤكدة دعمها الثابت للجهود السياسية الرامية لوقف الحرب وإعادة المسار السياسي إلى سكته الحقيقية. هذه المبادرات الإنسانية والسياسية تقطع الطريق على الأصوات المشككة التي تحاول استغلال معاناة الشعب الفلسطيني لتحقيق مآرب سياسوية ضيقة و أهداف إنتخابوية بئيسة.

حيث أن الشعب المغربي اليوم يدرك ، بوعيه المتقدم، صدق المواقف الملكية السامية و التزامها الدائم و المستمر بدعم القضايا العادلة في الملف الفلسطيني، في مقابل زيف المواقف السياسوية التي تحاول المزايدة على ارتباطه الوجداني بهذه القضية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى