مجتمع

المملكة المغربية: بوصلة الأمن الإفريقي المستدام

 

بقلم: البراق شادي عبد السلام

 

في خطوة إستراتيجية تعزز الريادة المغربية في مجال الأمن القاري، تم افتتاح مركز التعاون الشرطي الإفريقي بالمغرب، الذي يُعد الأول من نوعه على مستوى القارة الإفريقية. حيث يشكل هذا الصرح الأمني منصة متطورة تعنى بالقيادة والتنسيق وتبادل المعلومات الأمنية المرتبطة بتأمين التظاهرات الرياضية الكبرى، وذلك في سياق الإستعدادات المكثفة التي تباشرها المملكة لاحتضان نهائيات كأس أمم إفريقيا 2025 و على المدى المتوسط إحتضان مونديال 2030. ويندرج إنشاء هذا المركز في سياق تنزيل التعليمات الملكية السامية الداعية إلى تعزيز التعاون “جنوب-جنوب”، وتوطيد آليات العمل الأمني المشترك مع الدول الإفريقية الشقيقة، مكرساً بذلك الرؤية الملكية المستنيرة التي تضع الأمن بأبعاده الشاملة كركيزة أساسية للاستقرار والتنمية القارية.

ويأتي هذا الإنجاز كثمرة لتعاون وطني وثيق بين وزارة الداخلية، ووزارة الشؤون الخارجية، والمديرية العامة للأمن الوطني، و القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية والقيادة العليا للدرك الملكي، والجامعة الملكية المغربية لكرة القدم و المديرية العامة للابحاث و المستندات؛ حيث حضر الإفتتاح السيد وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين في الخارج، ناصر بوريطة، والفريق أول محمد بريظ، المفتش العام للقوات المسلحة الملكية، قائد المنطقة الجنوبية، والفريق أول محمد حرمو، قائد الدرك الملكي، والمدير العام للأمن الوطني ولمراقبة التراب الوطني، عبد اللطيف حموشي، والمدير العام للدراسات والمستندات، محمد ياسين المنصوري، ووالي جهة الرباط سلا القنيطرة، محمد يعقوبي، علاوة على أعضاء السلك الدبلوماسي الإفريقي المعتمد بالمملكة ، وذلك بموازاة مع شراكة دولية فاعلة مع منظمة “الإنتربول”. وفي هذا الإطار، يُعد مشروع “ستاديا” (Stadia) أحد أبرز الركائز الدولية التي يستند إليها عمل المركز؛ وهو مشروع استراتيجي أطلقه الإنتربول لصياغة معايير عالمية موحدة وتطوير شبكة من الخبراء في تأمين التظاهرات الكبرى. ومن خلال هذه الشراكة، يستفيدالمركز من قواعد بيانات متطورة ومنهجيات عمل مجربة دولياً في إدارة الحشود وتحليل المخاطر، مما يتيح مواءمة الخطط الميدانية مع أرقى المعايير الأمنية المعتمدة عالمياً.

وعلى صعيد آخر، تحمل طبيعة التنسيق القائم بين المؤسسات الاستراتيجية المغربية دلالات سيادية عميقة؛ إذ يعكس الانخراط المتناغم لوزارة الداخلية ووزارة الخارجية، إلى جانب القطب الأمني (الأمن الوطني وجهاز الدرك الملكي – و القوات المسلحة الملكية و المديرية العامة للتوثيق و المستندات) والجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، نموذجاً فريداً للدبلوماسية الأمنية في شقها الرياضي التي تتبناها المملكة بمسؤولية ، حيث أن هذا التكامل المؤسساتي يبرهن على قدرة الدولة المغربية على صهر الأبعاد الدبلوماسية والأمنية والرياضية في بوثقة واحدة، مما يحول مركز التعاون الشرطي الإفريقي بالمغرب إلى مركز ثقل استراتيجي قاري يترجم قدرة المؤسسات الوطنية على إدارة ملفات معقدة عابرة للحدود بكفاءة جماعية و بتناغم سيادي يؤكد أن نجاح الاستحقاقات الكبرى هو نتاج لمنظومة وطنية متكاملة تضع المصلحة العليا للمملكة وإشعاعها القاري فوق كل اعتبار .

وفي السياق ذاته، يستلهم هذا المركز نجاحه من الرصيد المهني والاحترافي المشهود لرجال الأمن و الدرك المغاربة، الذين بصموا على أداء استثنائي في إطار المركز الدولي للتعاون الشرطي (IPCC) خلال محافل دولية كبرى، لعل أبرزها مونديال قطر 2022 و الألعاب الأولمبية باريس 2024. وقد أثبتت هذه المشاركات كفاءة العناصر الأمنية المغربية في إدارة غرف العمليات الدولية المشتركة، وقدرتها العالية على التنسيق الميداني والتبادل اللحظي للمعلومات الحساسة، مما جعل من الخبرة المغربية مرجعاً دولياً ومطلباً للعديد من الشركاء في تأمين الفعاليات العالمية الكبرى.

وبناءً على هذه الهيكلية، يضم المركز ضباط اتصال يمثلون الأجهزة الأمنية للدول الـ23 المتأهلة للبطولة، وفرقاً متنقلة من المراقبين (SPOTTERS) لمواكبة الجماهير ميدانياً، كما يشهد مشاركة ممثلين عن “الكاف” و”الفيفا” وخبراء من إسبانيا والبرتغال في أفق تنظيم مونديال 2030. وتتمثل مهام المركز في تسهيل التبادل الآني للمعلومات وتنسيق الإجراءات الوقائية، مع تفعيل يقظة رقمية متطورة لرصد التهديدات السيبرانية وتأمين المنشآت الحيوية، بما يضمن بيئة آمنة تحتفي بالقيم الرياضية واللعب النظيف وتعزز صورة المغرب كقطب أمني عالمي.

و في نفس السياق يبرز والي الأمن عبد الرفيع المناوري، مدير المركز الإفريقي للتعاون الشرطي، ككفاءة وطنية استثنائية راكمت خبرة ميدانية واسعة في تدبير الملفات الأمنية المعقدة، معززة بمسار رقابي صارم داخل “مديرية المفتشية العامة”، وتجربة دولية وازنة بدولة إثيوبيا. وبفضل هذا الجمع الفريد بين الحنكة الميدانية والدبلوماسية الأمنية، من المنتظر أن يقود السيد المناوري اليوم ببراعة استراتيجيات التنسيق القاري، مؤكداً ريادة الأطر المغربية في هندسة الأمن الإفريقي والدولي .

 

حيث سيعمل المركز الإفريقي للتعاون الشرطي كركيزة استراتيجية تهدف إلى توفير بيئة رقمية آمنة وقابلة للتشغيل البيني لتسهيل التواصل الفوري بين أجهزة الشرطة الوطنية وقوات الشرطة الأفريقية، مما يضمن تبادلاً سريعاً للمعلومات وتنسيقاً محكماً أثناء العمليات المشتركة لتعزيز الاستجابة الميدانية. ويمتد دور المركز ليكون محفزاً للتعاون المؤسسي عبر الحدود، حيث يوفر منصة متطورة لدعم العمليات الميدانية من خلال مشاركة ملفات المشتبه بهم وتتبع الشبكات الإجرامية.

 

ويأتي تدشين هذا المركز كحلقة مفصلية في مسار تكريس الرؤية الملكية المتبصرة التي تروم تحويل الرباط إلى عاصمة مركزية للأمن الإفريقي، ومنصة انطلاق لبناء منظومة أمنية قارية متكاملة. فهذا الزخم الاستراتيجي يجد قوته في النجاحات المتتالية للمملكة، خاصة بعد نيل المغرب شرف استضافة الدورة 93 للجمعية العامة للمنظمة الدولية للشرطة الجنائية (إنتربول) بمراكش سنة 2025، وهو اعتراف دولي صريح بموثوقية النموذج الأمني المغربي ، حيث أن هذا التوجه لا يقف عند حدود التأمين الرياضي، بل يمتد ليشمل صياغة عقيدة أمنية إفريقية مشتركة تنبع من القارة وتخدم مصالح شعوبها. ويتعزز هذا المسار بالدور الريادي الذي يلعبه المعهد العالي للعلوم الأمنية بمدينة إفران، والذي بات يشكل أكاديمية قارية لتخيل ورسم السياسات الأمنية المستقبلية وتأهيل الكوادر الأمنية من مختلف دول القارة ، ف​من خلال احتضان مثل هذه الصروح الاستراتيجية، يسعى المغرب إلى مأسسة “السيادة الأمنية الإفريقية” وتوفير الفضاءات الكفيلة بتبادل الخبرات وتوحيد الرؤى لمواجهة التحديات العابرة للحدود. وبذلك، تتحول العاصمة الرباط إلى قطب إشعاعي ومختبر لصناعة الاستقرار، يجسد طموح جلالة الملك محمد السادس نصره الله في جعل الأمن رافعة حقيقية للتكامل الاقتصادي والازدهار الاجتماعي في عموم القارة السمراء.

 

على ضوء ما سبق يتجاوز مفهوم الأمن الرياضي في العقيدة الأمنية المغربية المعاصرة الأطر التقنية الضيقة، ليرتقي إلى مرتبة الدبلوماسية الأمنية السيادية التي تخدم الإشعاع القاري و الدولي للمملكة الشريفة. فنجاح المغرب في توطين الخبرات المكتسبة من الميادين العالمية من خلال الكفاءات الأمنية المغربية —كما في قطر وباريس— وتجسيدها في “مركز التعاون الشرطي الإفريقي”، يعلن رسمياً عبور المملكة من مرحلة مواكبة المعايير الدولية إلى مرحلة صناعة النموذج المرجعي المغربي وتصدير الحلول الأمنية المبتكرة في إدارة التظاهرات الكبرى ، حيث يقف وراء هذا التحول الاستراتيجي، المرتكز على التنزيل الدقيق و الإلتزام الصارم بالرؤية الملكية السامية، الدور المحوري للسيد عبد اللطيف حموشي على رأس المديرية العامة للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني. فقد استطاعت المؤسسة الأمنية، تحت قيادته الرصينة ونهجه الاستباقي المرتكز على معايير علمية و أكاديمية ، أن تفرض نفسها كـ “بوصلة أمنية عابرة للحدود” وشريك استراتيجي لا محيد عنه في حماية الاستقرار العالمي. فالعمليات الأمنية النوعية التي يباشرها “القطب الأمني المغربي” خارج الحدود ، في مجالات مكافحة الإرهاب و الجريمة المنظمة العابرة للقارات و تطويق المنظمات الإجرامية و تفكيك بنياتها التحتية، تمثل محطات مضيئة سيتوقف التاريخ طويلا أمامها ليؤكد على ريادة المملكة و قدرة العقل الإستراتيجي المغربي على إبتداع مقاربته المتفردة المرتكزة على الخصوصية المغربية؛ فهي لم تقتصر على تحصين المنشآت والأرواح، بل رسخت صورة المغرب كقطب استقرار موثوق، يسخّر احترافيته العالية لتعزيز قيم السلم والتنمية، وتحويل الأمن إلى رافعة حقيقية للازدهار القاري والدولي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى