مجتمع

المغرب و القضية الفلسطينية : ديبلوماسية الوضوح في مواجهة ديبلوماسية الشعارات 

 

بقلم : البراق شادي عبد السلام

 

بعد أحداث السابع من أكتوبر الأليمة والحرب الهمجية التي استهدفت المدنيين من الجانبين وما خلفته من فظائع يندى لها جبين الإنسانية، وفي وقت كانت المنطقة تغرق في فوضى الشعارات وحرب الوكالات، قدم العقل الاستراتيجي المغربي درسا للتاريخ في دبلوماسية الوضوح ورسوخ المواقف والثبات الاستراتيجي، حيث كانت السيادة هي البوصلة، والمصلحة الوطنية هي الغاية، والالتزام القومي بالقضايا العادلة في الملف الفلسطيني فعلاً وإجراءات ملموسة لا مجرد قول وبيانات استهجان وبلاغات استنكار و سعي مستدام لبناء سلام عادل يضمن حقوق الشعب الفلسطيني الغير قابلة للتصرف .

 

ويرتبط هذا المسار الدبلوماسي الرصين بتداعيات الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل على الموقف السياسي و الديبلوماسي للمملكة المغربية إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي و بشكل خاص ب أحداث السابع من أكتوبر 2023، حين أن قرار تطوير المسار الديبلوماسي مع إسرائيل جاء نتيجة صياغة قرار استراتيجي تطلب دراسة معمقة وتحليلا دقيقا لجميع الانعكاسات المحتملة على المدى القصير والبعيد، وعلى مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، إذ يعد هذا القرار عملية معقدة استوجبت توافر المعلومات اللازمة والتحليل الدقيق للوضع الراهن والتوقعات المستقبلية مع تحديد الأهداف المرجوة والسيناريوهات المختلفة، وبناء عليه اتخذ العقل الاستراتيجي المغربي قراره بتطوير هذا المسار بحكمة مدروسة وقراءة مستفيضة لكل التطورات بشكل يتوافق مع المصالح العليا للشعب المغربي، مما يستدعي جهود التعبئة والتعاون والتنسيق لتوفير الدعم اللازم لتنفيذه ومتابعة نتائجه عن قرب.

 

وفي سياق متصل، ترتكز المقاربة المغربية في التعاطي مع ملف الصراع الفلسطيني على مبدأ الحسم السيادي لإنهاء الحقبة التي شهدت محاولات بعض الأطراف التأثير على المصالح العليا للمملكة عبر تدخلات “وكلاء” إقليميين سعوا لرهن القرار الوطني لأجندات خارجية، حيث نجح العقل الاستراتيجي المغربي في تحييد أدوار هؤلاء الوسطاء الذين حاولوا توظيف القضايا القومية كأوراق للضغط السياسي أو الابتزاز الجيوسياسي من خلال توظيف أدوات سياسية وأيديولوجية محلية، وبذلك انتقلت الرباط إلى مرحلة الإدارة المباشرة لملفاتها الحيوية بناءً على تقديرات وطنية صرفة، مكنت المغرب من صياغة تحالفاته وفقاً لمنطق الندية والمصلحة المتبادلة، ووضعت حداً نهائياً لأي محاولة لخلط الأوراق أو المقايضة بمبادئ الدولة، وضمنت للمملكة استقلالية كاملة في اتخاذ قراراتها بما يخدم تطلعات الشعب المغربي ويحصن أمنه القومي من التدخلات الإقليمية الموجهة ، ​كما تعتمد هذه الاستراتيجية على الفصل الدقيق بين مسار الدفاع المستميت عن الحقوق الفلسطينية المشروعة وبين مسار التعاون الدولي المرتبط بالمصالح الحيوية للمملكة، بما يضمن بقاء القضية الفلسطينية التزاماً أخلاقياً وسياسياً ثابتاً بمنأى عن التجاذبات المصلحية العابرة، ويسمح في المقابل بتطوير شراكات استراتيجية تعزز من قدرة المغرب على التأثير الفعال في ملفات السلم والأمن والاستقرار بالمنطقة.

 

وتأكيداً على هذا النهج، تظل المملكة المغربية وفية لمواقفها الثابتة إزاء القضية الفلسطينية، وهو الالتزام الذي يندرج في إطار الدور المركزي للمملكة ولصاحب الجلالة الملك محمد السادس بصفته رئيساً للجنة القدس المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي، عبر دعم القضايا العادلة والحفاظ على المقدسات الإسلامية في فلسطين واحترام حرية ممارسة الشعائر الدينية لأتباع الديانات السماوية الثلاث، مع حماية الطابع الإسلامي للمدينة المقدسة وحرمة المسجد الأقصى ودعم جهود تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط، إذ تشكل هذه المواقف رسالة واضحة للداخل والخارج بأن المغرب ينتهج دبلوماسية الوضوح والشفافية والدفاع عن المصالح القومية العليا، وفق مبدأ احترام حقوق الآخرين بشكل ينزع صفة الوكيل التجاري لبعض الكيانات والأنظمة والتنظيمات والجماعات والأحزاب التي جعلت من القضية الفلسطينية أصلاً تجارياً لاستخدامه وقت الحاجة لخدمة مصالح جيوسياسية وانتخابية ضيقة، ويترجم هذا الموقف الثابت الشعور الجماعي للشعب المغربي الملتف حول قيادته وقراراتها ومواقفها. ​و ينعكس هذا الثبات المغربي في جعل القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، مما يكرس عقيدة دبلوماسية لا تقبل التجزئة في نصرة الحقوق المشروعة، حيث يستمر المغرب في تقديم الدعم الميداني الملموس عبر ذراعه التنفيذية “وكالة بيت مال القدس”، التي تترجم المبادئ إلى مشاريع سوسيو-اقتصادية تدعم صمود المقدسيين وتحمي الهوية الحضارية للمدينة كمدينة للديانات السماوية الثلاث، وهو ما يجسد عمق الارتباط التاريخي والوجداني بين العرش العلوي المجيد والشعب المغربي وقضية فلسطين، بعيداً عن تقلبات الظرفية الدولية ومناورات الاستغلال السياسي، ليظل المغرب صمام أمان للشرعية الدولية وحائط صد أمام محاولات تصفية الحقوق الفلسطينية التاريخية.

 

وبناء على هذه المعطيات، يقدم المغرب نفسه كشريك استراتيجي متمكن من كل الأوراق والملفات الإقليمية بشكل دقيق، ويظهر الحفاظ على العلاقات المغربية الإسرائيلية في ظل الظروف الإقليمية والعالمية الحالية كامتداد لصيرورة تاريخية من الفعل الدبلوماسي المتزن واستمرار للعقيدة الدبلوماسية المغربية التي أصبحت مدرسة عالمية في تدبير العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول.

 

ويتجسد هذا الدور الاستراتيجي في المبادرات الميدانية الرائدة التي يقودها جلالة الملك محمد السادس، والتي مكنت من فتح طريق بري غير مسبوق لإيصال المساعدات الإنسانية مباشرة إلى سكان غزة والقدس الشريف في ظل ظروف معقدة، مما يؤكد قدرة الدبلوماسية المغربية على اختراق الحواجز وتحقيق مكاسب ملموسة للشعب الفلسطيني. وتتكامل هذه الخطوة مع الجهود المتواصلة التي تبذلها “وكالة بيت مال القدس” في تمويل وإدارة مشاريع حيوية بقطاعات الصحة والتعليم والإسكان، بالإضافة إلى المبادرة الملكية بتقديم منح إضافية للطلبة الفلسطينيين، وهي تحركات تبرهن على أن الفعل المغربي يتجاوز منطق الشعارات إلى منطق الاستجابة الإنسانية والسياسية الفعالة.

 

وبالموازاة مع ذلك، أظهر العقل الاستراتيجي المغربي على صعيد تدبير الشأن الداخلي كفاءة عالية في استيعاب التفاعلات المجتمعية من خلال ربط هذه المسارات بالهوية المغربية المتعددة الروافد التي يشكل المكون العبري جزءاً دستورياً وأصيلاً منها ،إذ ترتكز المقاربة المغربية الشاملة على موازنة الملفات من خلال المزاوجة بين بناء علاقات استراتيجية مع الطرف الإسرائيلي وتقديم دعم ميداني ملموس للمدنيين العزل في قطاع غزة و الضفة الغربية و القدس الشريف. حيث تستثمر الرباط قنوات التواصل بهدف تغيير الواقع الميداني، كما تظهر المبادرات النوعية في فتح معبر اللنبي و تأمين وصول المساعدات الغذائية والطبية الاستعجالية عبر فتح طريق غير مسبوق؛ وهنا يبرز الدور التاريخي للملك محمد السادس في حماية المقدسات الدينية في فلسطين عبر تنفيذ مشاريع بنيوية وإجتماعية ملموسة بواسطة وكالة بيت مال القدس الشريف، مما يساهم في حماية الهوية الإسلامية للمقدسات الدينية. في حين يتكامل هذا المسار الرسمي مع السماح بالمظاهرات الشعبية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، كونها تعبيراً عن جزء من نبض الشارع في مسار متكامل مع الحراك الدبلوماسي الواقعي و المسؤول ، ويضاف إلى هذه الرؤية الالتزام الكامل بصيانة الذاكرة العبرية، حيث أن حماية المكون العبري يعتبر واجبا دستوريا يكرس التعددية الثقافية للمملكة ، بالإعتماد على مبدأ دحر المواقف العنصرية أو الأقصائية، وتكريس قيم التعايش المشترك كخيار استراتيجي لا محبد عنه في ظل العرش العلوي المجيد. ويشكل هذا الوفاء للمكون اليهودي المغربي ركيزة في الهوية الوطنية، و وسيلة لها أهميتها في تعزيز الروابط مع مغاربة العالم سواء في إسرائيل أو في مكان آخر ، مما يمنح الدولة هامشاً للمناورة المسؤولة، يظهر التمسك بالثوابت التاريخية، ويجسد مفهوم “القوة الهادئة” القادرة على التأثير الفعال في المنطقة.

 

لقد أثبتت أحداث ما بعد السابع من أكتوبر أن المملكة المغربية، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، لا تكتفي برصد التحولات، بل تصنعها؛ محولة قنوات التواصل إلى جسور للإغاثة، وعلاقاتها الدولية المتوازنة إلى صمام أمان يحمي المقدسات الدينية و يدعم صمود الإنسان الفلسطيني على أرضه. إنها قوة “الاعتدال الفاعل” التي تجعل من المغرب رقماً صعباً في معادلات الصراع بالشرق الأوسط، وحصناً منيعاً أمام المزايدات، ليظل الالتزام المغربي تجاه سلام عادل في بين الشعب الفلسطيني و إسرائيل ثابتا لا يتزعزع، وعقيدة دبلوماسية تمزج بين حكمة التاريخ وطموح المستقبل و هو ما أكد عليه جلالة الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس في الرسالة الملكية إلى رئيس اللجنة الأممية المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف قائلا : ” رغم التطورات والتغيرات العميقة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، فإننا على قناعة بأن القضية الفلسطينية هي مفتاح الحل الدائم والشامل بمنطقة الشرق الأوسط ؛ حل يقوم على تمكين كل شعوب المنطقة من العيش في أمن وسلام ووئام، في إطار الشرعية الدولية، ووفق مبدأ حل الدولتين، الذي توافق عليه المجتمع الدولي. ” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى