عَطَبُ النُّخْبَة أم نُخْبَةُ العَطَبْ؟ من يُعطِّل التنمية فِعلاً؟

بقلم الدكتور جمال العزيز
في زمن تتسارع فيه التحولات العالمية وتتشابك فيه الأزمات الإقتصادية والإجتماعية والبيئية، تصبح السياسة أرقى من أن تُختزل في جلسة تصويت أو تدبير إداري روتيني. إنها القدرة على طرح الأسئلة التي يخشاها الآخرون، وعلى تحويل المؤسسات من أماكن للشرعية الشكلية إلى فضاءات للفعل والإبداع. غير أن الواقع يكشف مفارقة موجعة: جزء واسع من النخب السياسية يعيش حالة إنهاك فكري وعطب أخلاقي، تمارس السلطة بمنطق المحافظة على الموقع لا بمنطق ابتكار الحلول. وهكذا تتحول المؤسسات المنتخبة، من محرِّكات للتنمية إلى غرف انتظار بطيئة، يتآكل فيها الزمن السياسي دون أثر ملموس على حياة الناس.
أزمة النخب اليوم ليست أزمة أفراد فقط، بل أزمة بنية ووعي وأسلوب ممارسة. فحين يصبح الإختلاف السياسي مصدر قلق شخصي، وحين يتحوَّل طرح سؤال التنمية إلى تهديد، ندرك أن جزءا من النخبة ما يزال يعيش في مرحلة ما قبل السياسة؛ مرحلة يُنظر فيها إلى النقد كعملية خصومة، لا كأداة إصلاح.
هذا العطب يجعل الكثير من المجالس الترابية عاجزة حتى عن أبسط التزاماتها القانونية، مثل إعداد برامجها أو تقييم السياسات العمومية، في حين يُكتفى بتدبير اليومي وإطفاء الحرائق بقرارات ظرفية. الأخطر من ذلك أن بعض المسؤولين يجدون في الصمت والتمرير السريع للنقاط بديلا عن الحوار المؤسسي، ويستندون إلى شبكة الولاءات الشخصية لتطويق كل محاولة للسؤال أو المحاسبة،وكأن المؤسسات تحوَّلت من فضاءات ديمقراطية إلى مساحات لتبادل المصالح وتثبيت المواقع، لا لإنتاج السياسات العمومية.
لكن العالم الذي نعيش فيه تغيَّر. لم يعد يُدار بالولاء الشخصي أو الهاتف أو القرارات الأحادية الصامتة، بل بالبيانات، والشفافية، والوضوح ، وفعالية القرار، ومفهوم الإبتكار المفتوح. هذا المفهوم، الذي انطلق من عالم الإقتصاد والتكنولوجيا.
إذا اعتمدت مؤسساتنا الترابية منطق الإبتكار المفتوح، فإن إعداد برامجها سيكون عقدا اجتماعيا مبنيا على المشاركة الفعلية للمواطنين وجميع المتدخلين.
غير أن النخب المتهالكة التي تفضِّل الجمود على التغيير، وتعتبر كل دعوة إلى الحكامة أو المساءلة أو التخطيط الإستراتيجي نوعا من التمرُّد أو التشويش. هذه النخب لم تعد خطرا لأنها قوية، بل لأنها ضعيفة؛ لأنها تعيش خارج زمن المؤسسات وتستمد قوتها من هشاشة الآخرين لا من قوة مشروعها السياسي. ما يهددها ليس الخطابات، بل عودة السياسة إلى معناها الحقيقي: فن قيادة المجتمع لا تسيير الشؤون فقط.
رغم هذه الصورة القاتمة، فإن الأمل موجود؛هناك اليوم وعي مجتمعي جديد، وجيل من المنتخبين والفاعلين المدنيين والأكاديميين الذين يرفضون أن تُدار المؤسسات المنتخبة بمنطق الصمت. جيل يؤمن أن السياسة ليست صناعة الإجماع المصطنع، بل إدارة الإختلاف، واستباق المستقبل، وتحويل الأفكار إلى قرارات. جيل بدأ يتحدث لغة البيانات ومؤشرات الأثر وربط المسؤولية بالمحاسبة. وهذا التحول هو ما يُقلق من لا يزالون يعتقدون أن الهواتف (عطيطك le feu vert) قادرة على إيقاف حركة التاريخ.
إن إعادة بناء الثقة في المؤسسات الترابية لن تتحقق بزيادة الخطابات أو الإحتفالات الرسمية، بل بإعادة تعريف دور النخب كحاضنة للمعرفة والإبداع، لا كوسيلة لإدارة المصالح الخاصة. مستقبل التنمية في بلادنا لن تصنعه المجاملات، بل سيصنعه من يملك الشجاعة ليقول: “السياسة أكبر من الأشخاص، وأعمق من الحسابات الظرفية”.
لذلك يبقى السؤال الأكبر مُعلَّقاً، لا مُوجَّهاً إلى شخص أو حزب، بل إلى كل من يتولى الشأن العام: هل نملك الشجاعة للإنتقال من تدبير الوقت إلى صناعة المستقبل؟ وإن لم نفعل الآن، فمتى؟




