مجتمع

الأمن الخليجي : إستراتيجيات الردع و سبل الإستقرار الإقليمي .

 

بقلم : البراق شادي عبد السلام

 

لقد كشفت الحرب الإسرائيلية الإيرانية المتواصلة عن خسائر فادحة للنظام الإيراني على يد الجيش الإسرائيلي. لم تقتصر هذه الخسائر على الجوانب العسكرية فحسب، بل امتدت لتشمل عمليات استخباراتية وأمنية وعسكرية نوعية نفذتها إسرائيل في العمق الإيراني. هذه العمليات، التي استهدفت بنية تحتية حيوية، وشخصيات رئيسية، وبرامج حساسة، أظهرت بوضوح محدودية القدرات الدفاعية الإيرانية، والفشل البنيوي الذي يعاني منه نظامها السياسي والعسكري في حماية مصالحها الحيوية وكبح جماح النفوذ الإسرائيلي المتزايد في المنطقة ، هذا الوضع أضطرت معه القيادة الإيرانية المرتعشة و الفاقدة للبوصلة إلى إشهار ورقة زعزعة الإستقرار الإقليمي بإستهداف دولة قطر الشقيقة و معها كامل دول الخليج بمنظومتها الباليستية و الصاروخية .

 

في ظل هذا الوضع تواجه منطقة الخليج العربي تحديات أمنية متزايدة، لا سيما في ظل التهديدات الإيرانية المستمرة التي تسعى للتلاعب بإستقرار المنطقة والتأثير على ديناميكيات الأمن الإقليمي. هذه التهديدات ليست وليدة اليوم، بل هي جزء من عقيدة سياسية وعسكرية إيرانية طويلة الأمد ترتكز على أطروحة إيديولوجية بني على أساسها نظام الولي الفقيه تتمحور حول معاداة أمريكا أو” الشيطان الأكبر” ، و يتجلى في سلوك عدواني متكرر يهدف إلى فرض نفوذ طهران الإقليمي وتغيير موازين القوى لصالحه خدمة لأجندته التوسعية .

 

لقد تجلى هذا السلوك العدواني مؤخرًا في استهداف قاعدة العيديد الأمريكية في قطر، وهي عملية لا يمكن فصلها عن الحرب الإيرانية الإسرائيلية الأوسع. هذا الاستهداف، بغض النظر عن الجهة التي تقف وراءه بشكل مباشر و هي منظمة الحرس الثوري التي أصبحت دولة داخل الدولة الإيرانية ، يخدم بشكل مباشر الأجندة الإيرانية في العبث بديناميكيات الأمن الإقليمي والتأثير على عوامل الاستقرار في دول الخليج و العالم. هذا النوع من العمليات الإستعراضية يُذكّرنا بحرب الناقلات التي شهدتها الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات، حيث استهدفت إيران حينها السفن التجارية في الخليج بهدف تعطيل الملاحة والتأثير على الاقتصاد العالمي ، هذا التشابه في الأساليب يؤكد أن السلوك العدواني الإيراني ليس تكتيكًا تفرضه التطورات الجيوسياسية فحسب، بل هو منهج سياسي وعسكري ثابت، ويزداد شراسة خاصة في ظل الهزائم الكبرى التي تعرض لها النظام الإيراني مؤخرًا، على يد الجيش الإسرائيلي حيث نفذ عمليات إستخباراتية و أمنية و عسكرية في العمق الإيراني أظهرت على محدودية القدرات الإيرانية و فشل بنيوي يعرفها نظامها السياسي و العسكري .

 

على ضوء ما سبق، يرتبط مفهوم الأمن الخليجي ارتباطًا وثيقًا بمفهومي الأمن الإقليمي والدولي. فالخليج العربي ليس مجرد بقعة جغرافية تضم دولا تطل على بحر إقليمي، بل هو شريان حيوي للاقتصاد العالمي، كونه يضم أكبر احتياطيات النفط والغاز، ويمر عبره جزء كبير من التجارة العالمية و يضم أكبر الموانئ العالمية في التجارة الدولية. بالتالي، فإن أي اضطراب في أمن هذه المنطقة سيكون له تداعيات كارثية على الاقتصاد العالمي والاستقرار الدولي. الأكيد أن انهيار منظومة الأمن الإقليمي في الخليج سيهدد إمدادات الطاقة العالمية، ويزيد من تقلبات الأسواق، ويؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط، مما قد يدفع الاقتصاد العالمي إلى ركود عميق و أزمات قطاعية كبرى. فضلًا عن ذلك، إن زعزعة الاستقرار في هذه المنطقة الحساسة قد تغذي التطرف والإرهاب و الجماعات المسلحة الفاعلة ، وتخلق بؤر صراع جديدة، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن والسلم الدولي و الإقليمي .

.

في ظل هذه التهديدات أثبتت المقاربة الإماراتية والسعودية نجاعتها في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة. من خلال تطوير آليات استجابة فاعلة، و اليقظة الإستراتجية والتحرك الاستباقي المستمر و الفهم الدقيق و التحليل العميق للتطورات العسكرية و السياسية حيث تمكنت هاتان الدولتان إلى جانب شركاءهما الإقليميين من إحتواء جزء كبير من العربدة الإقليمية الإيرانية. وتُعد عملية عاصفة الحزم مثالًا ساطعًا على هذه النجاعة، حيث أوقفت العملية بشكل حاسم محاولة التطويق الاستراتيجي الإيراني لدول الخليج عبر اليمن، وأعادت بعضًا من التوازن للمشهد الإقليمي زمن سطوة الجنرال قاسم سليماني مهندس الخراب الإقليمي عبر ميليشيا فيلق القدس و تنظيماته الموازية.

 

في المقابل، تلعب الدبلوماسية الهادئة العمانية دورًا مركزيًا في تقريب وجهات النظر وبناء أرضية مشتركة لتجسير الهوة الأيديولوجية بين الأطراف المتنازعة. حيث تسعى مسقط إلى بناء تصور مستدام لأمن خليجي قوي قائم على الحوار والتفاهم و السلام و الوساطة الفاعلة بعيدًا عن الصراعات المباشرة. هذا الدور المحايد والموثوق به يجعل من عمان وسيطًا فعالًا في تخفيف التوترات وفتح قنوات الاتصال، مما يسهم في استقرار المنطقة على المدى الطويل، ويكمل الأدوار الأخرى.

 

و على هذا الأساس الراجح أن تلعب اتفاقات إبراهام دورًا مهمًا في الحفاظ على التوازنات الإقليمية. هذه الاتفاقات، التي ساهمت في تطبيع العلاقات بين بعض الدول الخليجية وإسرائيل، تفتح آفاقًا جديدة للتعاون الأمني والاستخباراتي، مما يعزز القدرة على مواجهة التهديدات المشتركة، وفي مقدمتها التهديد الإيراني. هذا التعاون يمكن أن يخلق جبهة موحدة لمواجهة التحديات الإقليمية، ويساهم في بناء استقرار أطول أمدًا، متجاوزًا الانقسامات التقليدية و عليه فإنضمام دول أخرى خليحية لهذه الإتفاقات سيساهم اليوم في إعادة صياغة قواعد الإشتباك الإقليمية التي دمرتها الضربات الأيرانية على قاعدة العيديد في قطر .

 

بالإضافة إلى ذلك، تُعد الشراكة الاستراتيجية مع الحليف الأمريكي ركيزة أساسية للأمن الخليجي. فالوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، والدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي يقدمه، يمثل عامل ردع مهمًا ضد أي اعتداءات محتملة.حيث تُعد التدريبات العسكرية والمناورات المشتركة بين دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية حجر الزاوية في تعزيز القدرات الدفاعية والردعية للمنطقة. هذه التدريبات، مثل “مناورات درع الخليج” و ” المدافع الحديدي ” و ” الصقر الحديدي ” تهدف إلى صقل المهارات العسكرية، وتبادل الخبرات، وتحسين التنسيق بين القوات المشاركة في مجالات متعددة مثل الدفاع الجوي، والعمليات البحرية، ومكافحة الإرهاب. كما تسهم هذه المناورات في إظهار الالتزام الأمريكي بأمن المنطقة، وتعزيز قابلية التشغيل البيني بين الجيوش الخليجية والقوات الأمريكية، مما يبعث برسالة ردع واضحة لأي جهة تسعى لزعزعة الاستقرار في الخليج ؛ وفيما يتعلق بمستقبل هذه الشراكة، فإن إمكانية انضمام مجلس التعاون الخليجي لحلف شمال الأطلسي ” الناتو ” في السنوات القادمة سواء كشريك إستراتجي أو كعضو كامل، وإن كانت تبدو غير واردة حاليًا، إلا أنها قد توفر مظلة أمنية و عسكرية أقوى لدول الخليج، وتدمجها بشكل أكبر في المنظومة الأمنية الدولية، مما يعزز من قدرتها على مواجهة التحديات الجيوسياسية المعقدة بفعالية أكبر.

 

من ناحية أخرى، لا يمكن فصل أمن الخليج عن أمن المنطقة الأوسع، ولهذا، فإن دور دول الإسناد الاستراتيجي سياسيا و أمنيا و عسكريا، وفي مقدمتها المملكة المغربية من منطلق أخوي و إلتزام صادق و مسؤولية تاريخية ، يصبح حيويًا و له أهمية كبرى. الأمن الخليجي لا يبدأ وينتهي في مضيق هرمز، بل يمر عبر مضيق جبل طارق مرورا بمضيق باب المندب، وهذا يعكس الترابط الجيواستراتيجي للمنطقة مع محيطها، هذا يعني أن أي زعزعة للاستقرار و السلام في الخليج العربي قد يصل تأثيره إلى شمال أفريقيا أو غرب المتوسط و العكس صحيح ، و هي حقيقة تؤكدها

المواقف الحازمة لجلالة الملك محمد السادس إزاء أي تحرك إيراني يستهدف إستقلالية و سيادة الدول الخليجية و خير مثال قطع علاقات المملكة المغربية الإيرانية رفضا لتصريحات تمس إستقلال مملكة البحرين الشقيقة و غيرها من المواقف الداعمة لدول مجلس التعاون الخليجي و بالتالي فإن تطوير الشراكات الاستراتيجية لتأخذ أبعادًا تكاملية أكثر، وتوسيع نطاق التعاون الأمني والدفاعي ليشمل دولًا مثل المغرب، يصبح ضرورة حتمية للحفاظ على أمن الخليج بشكل شمولي وفعال.

 

وعلى صعيد آخر، بعيدًا عن الصورة النمطية المتوارثة من زمن التأسيس، تشهد المنظومة العسكرية والأمنية الخليجية، وخاصة في الإمارات والسعودية، تطورًا هامًا وملحوظًا. حيث استثمرت هذه الدول بشمل منهجي في تحديث جيوشها، وتطوير قدراتها الدفاعية والهجومية، واقتناء أحدث التقنيات العسكرية. هذا التطور لا يقتصر على شراء الأسلحة فحسب، بل يشمل أيضًا تدريب القوات، وتطوير الصناعات العسكرية المحلية، وبناء استراتيجيات دفاعية حديثة قادرة على مواجهة التهديدات المعاصرة. هذه القفزة النوعية في القدرات العسكرية تعزز من قوة الردع لدول الخليج، وتقلل من اعتمادها على القوى الخارجية بشكل كبير.

 

ختامًا، أمن الخليج اليوم هو مسؤولية جماعية تتجاوز الحدود الإقليمية. هو مسؤولية خليجية في المقام الأول، تتطلب تنسيقًا وتعاونًا غير مسبوق بين دول المنطقة، كما أنه مسؤولية إقليمية ودولية بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية للخليج و لتأثيرات إقتصاديات دوله على الإقتصاد العالمي. فتثبيت السلام في هذه المنطقة ليس مجرد خيار، بل هو مطلب إقليمي ودولي له راهنيته القصوى لتحقيق ذلك، يجب أن يكون هدف تقليم أظافر النظام الإيراني بتدمير برنامجه الصاروخي والباليستي، و تفكيك تشكيلاته وميليشياته الإقليمية و بشكل خاص تطهير مضيق باب المندب من ميليشيا الحوثي الإرهابية ، جزءًا أساسيًا من أي توافق مستقبلي أو اتفاق إقليمي . فبدون معالجة هذه الجذور الأساسية للسلوك العدواني الإيراني، سيبقى السلام في الخليج هشًا ومعرضًا للتهديد المستمر و لأهواء حمقى طهران .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى